محرقة الأقلية المسيحية في إمارة العراق الإسلامية
قبل نحو أسبوعين قام مسلحون بنحر القس بولس اسكندر راعي كنيسة مار افرام للسريان الارثوذكس بالموصل، العراق، وذلك بعد أيام قليلة من اختطافه، وأعلنت مصادر قريبة من القس الراحل أن عملية الإعدام الوحشية تمت بسسب رفضه الانصياع لطلب المتطرفين باعتناق الإسلام. مر الحدث مرور الكرام على الأطراف العراقية المتناحرة والقوى الدولية المتورطة في المسألة العراقية، اللهم من بعض عبارات التنديد والأسف الجوفاء وشعارات الوحدة الوطنية البالية. رأى البعض أن الحادث لا يمكن فهمه بمعزل عن الحرب الطائفية الدائرة في العراق والتي راح ضحيتها ما يزيد عن نصف مليون عراقي في السنوات الثلاث الأخيرة. غير أن البعض الأخر قام بالربط بين ذبح القس اسكندر ومحاضرة البابا بينيديكت السادس عشر، بابا الفاتيكان، التي اقتبس فيها فقرات من كتاب يحتوي على عبارات تتعلق بانتشار الإسلام بالسيف كان أدلى بها إمبراطور بيزنطي في القرن الحادي عشر الميلادي. جار الربط بين اغتيال رجل الدين المسيحي ومحاضرة البابا بعد مظاهرات التنديد الواسعة التي اجتاحت العالم الإسلامي ودعاوى الانتقام التي رفعها الإسلاميون وحملات الهجوم التي تعرضت لها مصالح المسيحيين في العالم الإسلامي والتي كان منها اغتيال راهبة كاثوليكية في دولة الصومال التي يسيطر على مناطق واسعة منها عناصر إسلامية متطرفة. رغم منطقية الرأيين السابقين، إلا انه يجب الإشارة إلى أن المسيحيين لم يكونوا يوماً طرفاً في الحرب الطائفية الدائرة بين المسلمين السنة والمسلمين الشيعة، كما أن المسيحيين لم يعلنوا أبداً تأييدهم لطرف ضد الأخر. ومن ناحية أخرى فقد سعى المسيحيون المقيمون في العراق قدر طاقتهم للنأي بأنفسهم بعيداً عن محاضرة البابا بينيدكت المشار إليها، ويجدر بالذكر هنا أن القس المنحور كان أرثوذكسياً، ومن ثم تسقط جزئياً الدعاوى القائلة باعتبار قتله انتقاماً من رجال البابا بينيديكت في العراق.
هناك حقيقتان تتعلقان بالأوضاع الحالية للمسيحيين في العراق لا ينبغي غض النظر عنهما. الحقيقة الأولى التي يحاول البعض إخفاءها هي أن العراق يبدو مقبلاً على مرحلة قاسية من الحرب الأهلية يسعر نارها إرهاب المتطرفين والتكفيريين والرافضين للتعددية. وهي المرحلة التي يبدو أنه لم يعد للمسيحيين دور يذكر فيها. لذا نجد أن نسبة كبيرة منهم تقدر بمئات الألاف غادرت العراق إلى كردستان وسوريا والأردن هرباً من الاضطهاد البربري المنظم الذي يشنه الإرهابيون ضدهم في السنوات الأخيرة. ولعل الإعلان عن الإمارة الإسلامية في بعض المدن العراقية هو خير دليل على أن وجود المسيحيين في هذه المدن لم يعد مرغوباً فيه من قبل الإرهابيين المسيطرين على زمام الأمور هناك. وفي ظل الأجواء الملتهبة بنار الإسلاميين الإرهابيين في العراق لم يكن مدهشاً ذبح القس بولس اسكندر في الموصل التي شهدت مؤخراً توزيع منشورات تطالب العراقيين بإبداء الطاعة والولاء للإرهابي أبو عمر البغدادي الذي نصب نفسه أميراً لإمارة العراق الإسلامية في الموصل وصلاح الدين والأنبار وغيرها من المدن العراقية التي تسكنها غالبية سنية. ولذا فلم يكن مدهشاً توالي أنباء هروب المسيحيين العراقيين من وطنهم خاصة بعدما تخلى عنهم الجميع في مواجهتهم للإرهاب المتزايد نحوهم ونحو مصالحهم الاقتصادية ودور عباداتهم. فالحكومة العراقية، بافتراض حسن نيتها تجاه المسيحيين، لا تزال غير قادرة على الإمساك بزمام الأمور بعد انتشار الانفلات الامني إلى معظم المدن العراقية. كما أن القوات الأمريكية، التي حافظ المسيحيون العراقيون على علاقات باردة معهم حتى لا يتهموا بوطنيتهم وحتى لا يوصموا بالخيانة أو العمالة للقوات الأجنبية، لم تكن أبداً حماية الأقلية المسيحية إحدى أهدافها خلال حرب عزل صدام حسين وبعدها.
أما الحقيقة الثانية فهي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بأوضاع المسيحيين في الدول العربية والإسلامية بشكل عام. هذه الأوضاع المزرية المشينة تشير إلى خطط خبيثة غير معلنة تخبيء مستقبلاً غامضاً للمسيحيين في هذه الدول. لعلنا لا نبالغ إذا قلنا أن المقصود من تضييق الخناق على المسيحيين من قبل المتأسلمين المتطرفين والإرهابيين هو تفريغ الدول ذات الأغلبية المسلمة تماماً من المسيحيين. نعم، فبعد تفريغ شمال أفريقيا وشبه الجزيرة العربية من المسيحيين وغيرهم من أتباع الديانات الأخري، جاء الدور الأن لاقتلاع الجذور التاريخية للمسيحية من البقية المتبقية من الدول التي تحوي أقليات مسيحية ملموسة مثل لبنان وسوريا والعراق وفلسطين ومصر والسودان، فضلاً عن نيجيريا وأندونيسيا. لقد تناقصت أعداد المسيحيين في معظم هذه الدول بصورة مذهلة في السنوات الأخيرة بسبب الاضطهادات العنيفة التي يتعرضون لها والتي تبدأ بالاستبعاد والتجاهل مروراً بالمضايقات النفسية والجسدية والتهديد وانتهاك العرض والتنكيل وإهدار الحقوق وتنتهي بالقتل الذي يصل في كثير من الأحيان إلى المجازر الجماعية. وقد جاء تناقص أعداد المسيحيين بعدما قرر مئات الألاف منهم الهجرة إلى الخارج كسبيل وحيد للخروج والهروب من حلقات التعنت والحقد الكراهية التي التفت حول رقابهم، بعدما تزايد نفوذ الإسلاميين المتطرفيين بشكل خطير في السنوات الأخيرة. الملاحظ هنا ان القادرين مادياً فقط هم الذين يهاجرون، في حين يبقى الفقراء تحت رحمة الإرهاب وعرضة للتغيير القسري للعقيدة.
|