يوجد شىء نقف عنده هو ما زعموه من أن المعز قد تنازل لابنه عن الخلافة والحكم ولجأ إلى الدير حيث ترهب! ترى لماذا يفعل المعز ذلك إذا كان قد اقتنع بصدق دين الصليب؟
ألم يكن المنطقى أن يبقى فى الحكم لينشر دين الصليب، أو على الأقل ليساعد أهل الصليب على بناء ما يريدون من كنائس وليحميهم من بطش المسلمين الظالمين المتجبرين، وليُدِيل لهم من ابن كِلّس وأشباه ابن كِلّس، الذى أوغر صدره ضدهم وكاد أن يتسبب بحقده عليهم فى استئصالهم على يديه؟
وفى التاريخ حكام بدلوا دينهم فلم يتنازلوا لأولادهم عن السلطان بل بَقُوا وفرضوا دينهم الجديد على رعيتهم، وإلا فما معنى اقتناعهم بأن دينهم القديم لم يكن هو الدين الحق؟ هل يمكن أن يَبْقَوْا سلبيين تجاه الدين الجديد فلا يحاولوا أن يمكنوا له فى الأرض، على الأقل فى نطاق الدولة التى يحكمونها، والشعب الذى يتسلطون عليه؟ لقد ثبت أن عصر المعز لم يشهد ترميم الكنائس على النحو الذى يزعمه الكذابون ملفقو خرافة المقطم، أفلم يكن واجب ذلك المتنصر الجديد إذن أن يواصل البقاء فى الحكم لكى يقوم على أدنى تقدير بهذه المهمة التى كانت تؤرق ال***** حسبما يزعم ملفق الحدوتة؟
ومع ذلك كله فسنغض الطرف عن ذلك كله ونقول للقارئ كلمة واحدة أخرى تنسف هذه الزبالة الفكرية.
ألا وهى أن المعز لم يتنازل قط عن الخلافة لابنه ولا لغير ابنه، ولم يترك الحكم حتى مات، وإن كان قد عقد ولاية العهد للعزيز قبل وفاته بيومين اثنين كما سنرى بعد قليل. ودونكم أيها القراء الكرام كتب التاريخ كلها فقلبوا صفحاتها صفحة صفحة لتروا بأنفسكم كذب أولئك الرقعاء الدجالين.
وهذه، كسابقتها، كفيلة وحدها بهدم هذا العهر، إلا أننا للأسف نتعامل مع قوم لا يستحون رغم معرفتهم التامة بكل ما قلناه!
ولسوف نكتفى بثلاثة من مؤرخينا تكلموا عن وفاة المعز وهو فى السلطان، وذكروا السنة التى مات فيها: وأولهم ابن زولاق، المعاصر للمعز وكاتب سيرته، والذى نقل عنه المقريزى فى كتاب "اتعاظ الحُنَفا بأخبار الأئمة الخُلَفا" السطور التالية: "حكى الفقيه الفاضل المؤرخ أبو الحسن بن إبراهيم بن زولاق المصري في كتاب "سيرة المعز"،
وقد وقفت عليها بخطه رحمه الله، أخبار المعز منذ دخل مصر إلى أن مات: يومًا يومًا، وأن المعز إنما عهد لابنه يوم الخميس لأربع عشرة بقيت من شهر ربيع الآخر قبل موته بيومين. وذكر أن سبب العهد إليه اجتماع الناس بباب القصر وكثرة الرقاع، وأنه سئل فيمن ينظر في ذلك، فأمر ابنه نزار العزيز أن ينظر فيه فاستخلفه".
أما المؤرخ الثانى فهو ابن الأثير صاحب "الكامل"، الذى يقول: "في هذه السنة توفي المعز لدين الله أبو تميم معد بن المنصور بالله إسماعيل ابن القائم بأمر الله أبي القاسم محمد بن المهدي أبي محمد عبيد الله العلوي الحسيني بمصر، وأمه أم ولد، وكان موته سابع عشر شهر ربيع الآخر من هذه السنة، وولد بالمهدية من إفريقية حادي عشر شهر رمضان سنة تسع عشرة وثلاثمائة، وعمره خمس وأربعون سنة وستة أشهر تقريبا.
وكان سبب موته أن ملك الروم بالقسطنطينية أرسل إليه رسولاً كان يتردد إليه بإفريقية، فخلا به بعض الأيام، فقال له المعز: أتذكر إذ أتيتني رسولاً وأنا بالمهدية، فقلت لك: لتدخلن عليّ وأنا بمصر مالكا لها؟ قال: نعم! وأنا أقول لك: لتدخلن عليّ ببغداد وأنا خليفة. فقال له الرسول: إن أمنتني على نفسي ولم تغضب قلت لك ما عندي. قال له المعز: قل وأنت آمن.
قال: بعثني إليك الملك ذلك العام، فرأيت من عظمتك في عيني وكثرة أصحابك ما كدت أموت منه، ووصلت إلى قصرك، فرأيت عليه نورا عظيما غطى بصري. ثم دخلت عليك فرأيتك على سريرك فظننتك خالقا، فلو قلت لي إنك تعرج إلى السماء لتحققت ذلك. ثم جئت إليك الآن فما رأيت من ذلك شيئا، وأشرفت على مدينتك فكانت في عيني سوداء مظلمة. ثم دخلت عليك فما وجدت من المهابة ما وجدته ذلك العام، فقلت إن ذلك كان أمرا مقبلاً، وإنه الآن بضد ما كان عليه. فأطرق المعز، وخرج الرسول من عنده، وأخذت المعز الحمى لشدة ما وجد، واتصل مرضه حتى مات.
وكانت ولايته ثلاثا وعشرين سنة وخمسة أشهر وعشرة أيام، منها: مقامه بمصر سنتان وتسعة أشهر، والباقي بإفريقية. وهو أول الخلفاء العلويين ملك مصر، وخرج إليها... وكان المعز عالما فاضلاً جوادا جاريا على منهاج أبيه، حسن السيرة وإنصاف الرعية، وستر ما يدعون إليه إلا عن الخاصة، ثم أظهره وأمر الدعاة بإظهاره، إلا أنه لم يخرج فيه إلى حد يذم به".
وبالمناسبة فلم يكن ابن الأثير مصريا ولا كان هواه مع الفاطميين، ومع هذا فقد أثنى عليه وعلى دينه وأخلاقه كما نرى فى النص السابق. ولو كان وجد فى سلوكه ودينه مغمزا لما سكت! وفى "النجوم الزاهرة" لابن تغرى بردى عن تولى نزار ابن المعز الخلافة من بعد أبيه: "هو نزار أبو منصور العزيز بالله بن المعز لدين الله أبي تميم معد بن المنصور بالله أبي طاهر إسماعيل بن القائم بأمر الله محمد بن المهدي أبي محمد عبيد الله العبيدي الفاطمي المغربي ثم المصري، ثاني خلفاء مصر من بني عبيد، والخامس من المهدي إليه ممن وَلِيَ من آبائه الخلافةَ بالمغرب. مولده بالمهديّة من القيروان ببلاد المغرب في يوم عاشوراء سنة أربع وأربعين،
وقيل: سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة. وخرج مع أبيه المعز من المغرب إلى القاهرة ودام بها إلى أن مات أبوه المعز معد بعد أن عهد إليه بالخلافة. فوَلِيَ بعده في شهر ربيع الآخر سنة خمس وستين وثلاثمائة وله اثنتان وعشرون سنة".
ثم لو كان المعز قد تنصر أفكانت الكنيسة تسكت كل هذا الدهر الطويل وتبقى الأمر سرا بينها وبين نفسها؟
أم تراه كان يبقى سرا فلا تعلمه الدول الأوربية النصرانية وتذيعه فى العالمين، على الأقل تكسيرا لمعنويات المسلمين وطنطنة به لدين التثليث فى ذلك الوقت الذى كان الصراع بين الغرب الصليبى ودول التوحيد على أشده؟ إن كتب التاريخ الأوربية التى ألفت فى ذلك الوقت متاحة للدارسين، فأين فيها ذلك الخبر الخطير؟
ودعنا من أوربا وكتب تاريخها وتعالوا نسأل: أين ذلك فى كتب تاريخنا نحن، سواء فى عصر الفاطميين أو بعد عصرهم؟ لقد كان للفاطميين أعداء ألداء فى كل مكان: فى داخل المحروسة وفى خارجها، فكيف سكت كل هؤلاء فلم يتخذوا من تنصر المعز سلاحا لمحاربتهم به، وهو سلاح لا يمكن أبدا أن يخيب؟
ولا يجوز القول بأن الأمر قد بقى سرا خفيا، فمثل تلك المسائل لا يمكن أن تبقى سرا، فهناك بكل يقين من يهمهم تلطيخ الفاطميين بالحق أو بالباطل من بين رجال القصر والحكومة أو من بين طوائف المصريين أو من بين أعدائهم فى الشام وبغداد وبيزنطة.
ومثل هؤلاء لا بد أن يكسروا جدار الصمت ويفتحوا فمهم فيتكلموا ويعملوا على نشر الفضيحة!
آخر تعديل بواسطة Servant5 ، 06-12-2006 الساعة 09:12 PM
السبب: تكبير الخط
|