معرض الكتاب سوق فى منتهى السوء وسوءات أخرى
د. خالد منتصر
يذ كرك بموقف ميكروباص العتبة.
* شاهدت سيدة دنماركية تشترى كتباً للمساجين العرب هناك..فتساءلت هل قرأ عماد الكبير كتاب الأيام قبل أن ينتهكه الضابط؟
* أعلى مبيعات فى المعرض هى كتب الخوارق والسحر والحجامة..يبقى أنت أكيد فى مصر!!
* بعد خروجى من المعرض...قلت: الله يرحمك ياسمير ياسرحان
**بعد أن أصبح لمعرض الكتاب "راعي" أو "سبونسر" بلغة البيزنس، وبعد أن طالته يد البركة وعصا رجال الأعمال السحرية، منيت نفسى بعد التحول بالتجول فى مول لا سوق، ولكن خاب ظنى فمازال المعرض سوقاً كسوق التلات، لم تفلح بوسترات نجيب محفوظ أن تنقذ ماء وجهه، فقد كان أديب نوبل ينظر بحسرة إلى إختلاط أصوات باعة الشاورمة والطعمية السورى وأكياس الشيبسى، وهتافات تجار بوسترات نانسى وهيفاء ومروى، وتوسلات باعة شرائط الكاسيت المضروبة لشعبان والصغير وبعرور وإسطوانات البلاى ستيشن المعطوبة خد تلاته والرابع مجاناً، وصراخ باعة السور كله بجنيه، القرآن بجنيه والإنجيل بجنيه وكيف تسعد نساء العالم بجنيه وكتاب أبلة نظيره بجنيه وخوارق الجن بجنيه....أى حاجه بجنيه، أحسست أننى أخطأت الطريق إلى موقف ميكروباصات العتبة، ونظرت إلى عمنا نجيب فوجدته مازال يتأمل.
** دخلت إلى سراى ألمانيا أمام الجامع، فى هذا السراى أقضى ثلاثة أرباع وقتى، صافحت صديقى الأستاذ نبيل صاحب دار الإنتشار العربى، وجدته مشغولاً مع سيدة دنماركية بصحبة الشاعر العراقى الجميل جمال جمعه صاحب تحقيق كتاب النفزاوى، كانت السيدة الدنماركية تطلب عشرين نسخة من هذا الكتاب وثلاثين من ذاك المجلد....الخ، وكان يساعدها جمال فى الترجمة، بعد أن تركته السيدة الدنماركية إلى دار أخرى لتعيد نفس الكره ثانية، قال لى الأستاذ نبيل تعرف هالسيدة كانت بتسوى إيش وكانت موجوده ليش؟، هززت راسى بالنفى، فقال نبيل: إنها كانت تختار كتباً للمساجين العرب فى الدنمارك من الذين لايتقنون القراءة باللغة الدنماركية أو لايستسيغون قراءتها!!!!، سمع حديثنا مواطن مصرى آخر كان يقلب فى الكتب على الرفوف ورامى ودنه على حديثنا، رمى الكتاب بقرف ووجه حديثه لنبيل معاتباً كيف تتعامل مع من تنتمى إلى البلد الذى أساء للرسول عليه الصلاة والسلام؟، لم يجب نبيل، وغرقت أنا فى مشهد سينمائى داهم ذاكرتى عن مساجين مصر، وعصا مؤخرة عماد الكبير التى حرمته من قراءة الأيام لطه حسين، وقرحة ساق أيمن نور ودعامة قلبه وإنتحاره البطئ الذى عطله عن الإطلاع على رواية شيكاجو للأسوانى، والصفعات والركلات والنفخات التى منعت طائفة كبيرة فى سجون مصر من متابعة عبقريات العقاد والتفرغ لعبقريات الداخلية!.
*محمد صادق أشهر تاجر صحف ومجلات قديمة فى منطقة سور الأزبكية، جذبنى نظامه وترتيبه لكنوزه الصحفية النادرة، حصيلة قرن كامل تقبع فى مكتبته، ذاكرة مصر الصحفية وأرشيف تاريخ المحروسة فى القرن الماضى يطل علينا من هذه المكتبة المتواضعة التى يتعامل معها هذا الرجل البسيط وكأنها أسرته التى من ورق وليست من لحم ودم، يغلف كل جريدة ومجلة فى كيس وينظفها ويلمعها ويرممها بحب بالغ وكأنه يربت على كتف معشوقته، هنا اللطائف المصورة والراديو المصرى والبلاغ والمؤيد، وهناك المصور وروز اليوسف والكشكول واللواء، أفيشات لأفلام الأربعينات، وبوسترات لنجوم الخمسينات، ظللت أقلب بشغف ,وأشترى حتى آخر مليم، وكوكتيل الزبائن الذى يتدفق على المكتبة عجيب ومدهش، منهم سيناريست تكتب عن الملك فاروق، وضابط فى مهمة رسمية من الداخلية لشراء جرائد موقعة الشرطة بالإسماعيلية، ومؤرخ مزنوق فى دستور 23، وكاتب كوميدى وزوجته المذيعة يبحثان عن ورق أصفر متآكل، ومعدة قناة تليفزيونية تتفق معه على تسجيل بالصور، وهو يرد بكلمة واحدة طلبكم عندى، قال وهو يصافحنى مودعاً " على فكرة التاريخ ده حاجه كبيرة قوى..التاريخ ده الدنيا والعيشه...واللى ماعرفش تاريخ ماعاشش ".
* أعلى مبيعات فى المعرض هى لكتب الخوارق والسحر والمعجزات وعذاب القبر والتداوى بالحجامة وبول الإبل والنصب البديل الذى يسمى كذباً الطب البديل وفتاوى بن عثيمين وبن باز، إكتساح لهذه النوعية ورخص أسعارها بالمقارنة لجودة طباعتها يشكك فى مصدر دعمها، قراءة مبيعات معرض الكتاب يرشدنا إلى الخريطة العقلية المصرية، كيف كانت وكيف أصبحت؟؟.
* موسوعة نجيب محفوظ التى أصدرتها الأكاديمية بإشراف عميدها السابق مدكور ثابت، هى عمل عبقرى وبديع ومجهد ويستحق الإحتفاء، دخلت إلى جناح الأكاديمية وجدت الموسوعة بجزئيها تعانى الركود والإهمال، فالجزء بمائة جنيه، إنها لابد أن تدعم حتى تصل إلى أحباب نجيب محفوظ الحقيقيين، إننا نكرر نفس مأساة جنازته حين لم يحضرها إلا الرسميين والمسئولين، أما من كتب لهم نجيب فقد طوردوا وطردوا من فردوس لقائه ووداعه الوداع الأخير، لانريدها موسوعة تستقر فى قصور وصالونات وشاليهات البعض، إنما نريدها فى متناول كل مصرى أحب نجيب وأحبه نجيب.
* أطول طابور فى معرض الكتاب كان طابور المزنوقين المحصورين!، أمام الحمام وفى مواجهة الدبليو سى، كان رواد المعرض يتعذبون فى حمامات أبو غريب وكنيفات أبو مصعب الزرقاوى، الرائحة لاتطاق، والبلاعات مسدودة، والحنفيات مكسورة، البشر يرفعون البنطلونات عبوراً لبركة المياه والعفن، والسيدات يتزحلقن على الطين، فى مشهد عبثى يذكرك بروايات كافكا، أو فيلم رعب من إخراج لأ بلاش إخراج دى، تذكرت "تلك الرائحة " مع الإعتذار لصنع الله إبراهيم!!.
* بعد ماخرجت من المعرض قلت جملة واحدة " الله يرحمك ياسمير ياسرحان... ظلمناك حياً ولم ننصفك ميتاً ".