كان القانون الذي ستحكم به الأمة التي هي محل تطبيق هذا القانون ؛غير معروفاً من الأمة . وهو السبب الرئيسي الذي أعطى الفرصة للوضّاعين والمفتين و الرواة للدس في القانون الإسلامي من باب تحقيق مصالح آنية شخصية للشيخ أو للسلطان لا فرق ؛ و أصبحت اليوم قوانين مقدسة تتفنن في إذلال المسلمين .
في روما الوثنية كان الشعب مصراً على تحقيق أعلى المكاسب ؛ كان في روما طبقتين متميزتين هما الأشراف ورجال الأعمال ؛ وكان الشعب بالتساوي بالطبقتين ونال مراده في عام 356 ق.م.و تم تعيين أول شخصية من العامة حاكماً ؛ ثم أصبح العامة يشغلون وظائف الرقباء على الحكام و من هؤلاء العامة كانت تلك الشخصية الكبيرة ؛ القنصل العام الملقب ب ( التربيون).
كانت أخر خطوات المساواة كأسنان المشط و نيل الحقوق المدنية عام 287ق. م . عندما اكتسبت أحكام الجمعية الوطنية الرومانية قوة القانون حتى لو عارضت في ذلك قرارات لمجلس الشيوخ .
أما التربيون ممثل الجماهير فقد كان وحده من يملك حقاً عرفه التاريخ بعد ذلك باسم حق الفيتو أي الاعتراض باسم الجماهير ضد أي قرار و كان يعني " أنا أحرم veto ".
عند هؤلاء الوثنيين لم يبحثوا عن أي رب يكون مسئولاً عن الدولة أو القانون و آليات لتنفذ القانون و رعايته ؛ كان التربيون و بيته و ما حوله مقدساً قدسية مدنية ؛ حصيناً باتفاق الشعب كله على حمايته ؛ لأنه هو من كان يحمي الشعب من أي جور حكومي ؛ باب بيته مفتوح أربعاً و عشرين ساعة ؛ يلجأ إليه كل مواطن ليضمن محاكمة عادلة أو يقدم شكوى عادلة ضد الحكومة .
إن توفير الآليات التي تشرف علي حماية القانون و إعلام الناس به و السهر علي تنفيذه بمساواة لم تتوفر في دولة الإسلام ؛ لذلك ضل الجانب النظري الجميل طريقه وظل نظريا ، من قبيل: متى استعبدتم الناس و قد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ؛ اضرب بن الأكرمين .
بما فهمنا ما يحدث في روما تعالوا نقرأ هذه الحكاية عن عمر قبل أن يكون خليفة ؛ ذهب صحابيان إلى النبي يختصمان في شأن لا علاقة له بشأن ديني أو تعبدي ؛ إنما هي خلافات دنيا و مكاسب ؛ فحكم النبي لأحدهما علي الأخر ؛ فلم يرض المضار من الحكم و طلب أن يوفدهم إلى عمر ؛ فلم يزجره النبي و لم ينزعج ؛ بل أرسلهما إلى عمر ؛ فحكيا له الحكاية ؛ فقام إلى سيفه و أطاح برأس من لم يرضى بحكم النبي و قال : " هكذا أقضي لمن لم يرض بحكم الله و رسوله ".
لو كان هذا القتيل في روما ربما أمكنه أن يرفع أمره إلى الجمعية العمومية أو إلى التربيون قبل قتله . لم يكن هناك قانون سماوي لإدارة الأرض ؛ لو كان المطبق في الأرض في الجزيرة قانوناً سماوياً لكان عهد عثمان أكثر عهد الدولة أمناً و رضاء ؛ لأن في زمنه جاءت غنائم الفتوحات بشراً وسبايا و أموالاً و جواهر ؛ ولأنه هو نفسه ذو النورين الذي استحت منه الملائكة ؛ و هو ما كان يجب أن يكون مسبباً للأمن بالضرورة مع قانون سماوي بالفرض ؛ و لكن ذلك لم يحدث ؛ ولم يكن باب عثمان محصناً لعدم وجود أي آليات أو قوانين واضحة في شأن الموقف الجديد المتأزم ؛فتم قتل عثمان على أيدي الصحابة شر قتلة ؛ بينما لم يكن التربيون آمناً وحده فقط ، بل أيضا بيتة ومحيط بيتة؛ بل أن من دخل بيت ( التربيون ) كان آمناً .
ليس المقصود من هذه المقارنة إبراز تفوق شعب على شعب ؛ أو قانون على قانون ؛ لكنها بالقطع لإبراز تفوق الآليات الحقوقية الرومانية ؛ مع انعدامها تقريباً في جزيرة العرب .
فماذا يمكن أن نستنتج من ذلك؟ ماذا يمكن أن نستنج من قول كتب السير و الحديث أن أبا بكر قرر الحكم بالكتاب و السنة بينما لم يكن هناك كتاب معلوم ولا سنة مدونة معلنة ؟؟
النتيجة هنا مع علمنا بمكانة أبي بكر و موقعه في الدعوة أن الفهم الواجب هو أنه كان يحكم بضميره الشخصي كأكبر صحابة الرسول و صديقه المصدق ؛ لأنه لم يكن هناك قانون ؛ النتيجة الثانية هي أن الله لم يهب الدولة الإسلامية دستورا ًو قانوناً لنظم حكمها و إداراتها عن عمد ؛ كما سكت عن كثير من الشئون ليتركها لنا مساحة حرة طليقة نفعل فيها ما نشاء وقتما نشاء بالطريقة التي نشاء ؛ لكن قناصي التاريخ و شذاذ الآفاق تمكنوا مبكراً من السطو علي معظم المساحات الحرة التي تركها لنا الله نفكر و ندبر وننتقي أي النظم في الحكم أنفع لمصالحنا .
|