النوبة.. سياسة دولة.. أم تصرفات خاطئة؟
عبدالرحمن خير
أكتب هذه السطور بدافع الحب لوطن أحبه وأكره أن يعبث بوحدة شعبه العابثون.. أتمناه عزيزا قويا عابرا فوق الصعاب كما حدث منذ آلاف السنين.
أتحدث عن هذا الوطن الذى تعيش فيه أشياء كثيرة وجميلة: المئذنة وبرج الكنيسة.. النخلة ومدخنة المصنع، السمرة والخمرية والأبيض والأحمر.. سنابل القمح وشموخ الأهرامات والنيل يحتضن الجميع، أخشى عليه من نغمات هنا وهناك، تلوث هواءه وتعطن مياهه.. عندما تقدمت باقتراح برغبة فى مجلس الشورى حول مشاكل النوبة المصرية بعد أن أودع لدى رؤساء بعض الجمعيات ملف ظل حبيس الدرج لعدد من الشهور لم يراجعنى فيهم أحد.. كنت أريد وقتا مناسبا.. وحينما هدأت الحملة حول تصريحات «حجاج أدول» فى مؤتمر الأقليات بواشنطن، قررت أن أقطع الطريق على دعاة الفرقة بين أبناء الوطن الواحد، التقيت بفريق من رؤساء الجمعيات فى جمعية توشكى بحرى فوجدت منهم أفكارا لفعلة «أدول» فى واشنطن ولكنهم قرروا أن هناك مشاكل يجب أن تحل بالتراخى على أرض الوطن.
مشكورا صفوت الشريف، رئيس مجلس الشوري، بعث باقتراحى إلى رئيس الحكومة، وتحدث معه أيضا د. مفيد شهاب، وزير الشئون البرلمانية، والكرة الآن فى ملعب الحكومة.
ولعلها تكون كاشفة لاتجاه الدولة فى هذه القضية.
لجنة التنمية البشرية بمجلس الشورى برئاسة د. فرخندة حسن قررت السفر لأسوان لمطالعة الموقف على الطبيعة.. كنت قد قرأت الكثير من الأوراق والتقارير والملفات التى تعرض للهم النوبي، كانت تحوى كلاما عن نخيل وبيوت وأراض وقرى أغرقت وتعويضات هزيلة.. ولكنى لم أتبين جسامة الأمر إلا حينما التقيت وزميلاى محمد عبدالسميع، وسيد خميس عضوا المجلس يوم الجمعة 14 أبريل حشداً من القيادات النوبية على الطبيعة فى قرية «عنيبة» بمنطقة نصر النوبة.
حلم عم خبيري
صاح الرجل بأسي: لقد حاربت على حدود مصر الشرقية فى الكونتيلا ورفح ونخل.. حياتى ذهبت من أجل الوطن، أريد أن أدفن إلى جوار رفات آبائى فى النوبة القديمة - لا نريد هذه البيوت.
تلفتنا حولنا تجولنا فى شوارع القرية، الشقوق فى الجدران أضخم من أن تخطئها عين لا يستطيع أحد أن يعيش تحت سقف هذه البيوت التى تهدد حياة الناس، والتى بنيت على نسق عنابر السجون وعلى أحسن تقدير مثل بيوت عمال الدريسة، صديق لى فى قطاع المقاولات أكد أن المقاولين نهبوا حتى أترعت بطونهم فى هذه المبانى الغبية، التى لا تتفق مع البيئة الصحراوية الملتهبة.. المضحك أن الإدارة المحلية تمنعهم من زراعة الأشجار حول البيوت لوجود نقص فى المياه.. وهم الذين تركوا قراهم لصالح أكبر خزان مائى فى العالم؟؟!!.
الحكومة خدعتنا؟!!
تحدث أمين التجمع بأسوان صلاح مندور ومعه أمين التجمع بنصر النوبة عبدالله حسن ولكنهما تركا المجال لعم خبيرى العجوز المحنك وأحمد اسحاق رئيس جمعية توماس بالقاهرة وآخرين، قالوا فى كل مرة منذ عام 1902 تاريخ بناء خزان أسوان ثم التعلية الأولى عام 1912 والتعلية الثانية عام 1933 كنا نذهب إلى سفوح الجبال أو غرب النيل نبنى بيوتا جديدة ونترك أرضنا وحيواناتنا الأليفة والنخيل الجميل، مرة من المرات رفضنا المغادرة فى الثلاثينيات، أمر صدقى باشا رئيس الحكومة بإغلاق بوابات خزان أسوان فأغرق عشر قرى نوبية - خلد الراحل محمد خليل قاسم هذه المأساة فى رائعته «الشمندورة» - حاول شاب نوبى طعن صدقى باشا بسكين فى قطار الإسكندرية - لم يذكروا هذه الواقعة لأنهم لا يحبون العنف - المرة الأخيرة فى عهد الثورة أخبرونا أنهم يريدون بناء سد كبير تزيد به مساحة الأراضى المزروعة فى مصر، وتولد منه كهرباء كثيرة تدير المصانع، وتوفر فرص عمل لآلاف المصريين، طلبوا منا إقناع أهلنا بالهجرة إلى شمال السد فى كوم أمبو وإسنا والأقصر وبعد تردد وافق الناس، أرسلوا موظفين لحصر الموجودين، لم يكن الحصر دقيقا وتخلفت مشكلة المغتربين الذين ذهبوا للشمال بحثا عن لقمة العيش بعدما تقلصت مساحة الأرض المزروعة حرموا من التعويض عن مساكنهم، قالت لنا الحكومة بيتا ببيت وأرضا بأرض، تركنا إقليما يمتد 500 كيلومتر إلى منطقة صحراوية طولها 50 كيلومترا ظهيرها جبل قاس لا يرحم وبيوت بنيت على أرض طفلية لم تحتملها، أما الأرض الزراعية فقد اتضح أن فدان الحكومة 18 قيراطا!!! وليتنا حصلنا عليها كلها، المنطقة صحراوية مليئة بالزواحف والحشرات، مات المئات من الأطفال وكبار السن هاجمتهم أمراض لم نكن نعرفها «ضاعت آلامهم فى الأفراح التى نصبت للسد العالي» حشر الناس بسرعة لمناطق التهجير تركوا الأرض والنخيل وحيوانات الحقل والحيوانات الأليفة حاول البعض المقاومة ولكن خطر الغرق تحت الخزان المائى الضخم كان أكبر من قدراتهم، فر الشباب إلى الشمال ودول الخليج وأوروبا!.
جزاء سنمار؟!!
ويضيف عم خبيرى بأسي.. جاء لنا رجال عبدالله خليل رئيس وزراء السودان الأسبق، وقالوا: لتذهبوا مع مهاجرى وادى حلفا إلى «خشم القربة» جنوبى الخرطوم. قلنا لهم «نار مصر ولا جنة السودان» نحن مصريون ولا نرتضى بغير هذا الوطن بديلا، الحكومة السودانية كانت قد خصصت لكل قطار من قطارات مهاجرى وادى حلفا طبيبا بيطريا لرعاية الحيوانات والمواشي، وذهب المهاجر ليتسلم منزلا ملحقا به حظيرة مواش، وحديقة مزروعة بالخضراوات و15 فدانا مزروعة وإعانة شهرية لا بأس بها ومع هذا فضلنا البقاء فى وطننا مصر ولم نستطع الشكوي.
المسكوت عنه هنا أن عشرات من الكوادر النوبية اليسارية كانت فى غياهب السجون خلال هذه الفترة إثر الصدام بين ناصر والشيوعيين عام 1959، وقد حرم هذا النوبيين من قادة بارزين فى الرأى والفكر فى أحرج مراحل تاريخهم، لقد رحل أكثرهم عن عالمنا وكان آخرهم المرحوم مختار جمعة عضو مجلس الشعب السابق الذى جرى إسقاطه فى آخر انتخابات.
تداخلت عوامل كثيرة: الحصار الاقتصادى المفروض على مصر وعدوان 1967 علا النوبيون فوق الجراح ولم يفكروا بمطالبة الدولة بحقوقهم.. تعويضات أرضهم وبيوتهم الهزيلة فالأمر لا يحتمل.. هجّرت الدولة سكان مدن القنال عام 1967، وبعد إزالة آثار العدوان أعادتهم إلى مدنهم ذات المساكن الجديدة الجميلة فى احتفالات رائعة.. بدأ النوبيون يتساءلون ونحن لقد استقر منسوب البحيرة أليس لنا حق العودة إذا لم يكن هناك حق التعويض؟!.
دارفور.. مصرية!!!
مع نهاية لقاء «عنيبة» كانت هناك مفاجأة فى انتظارنا أضاعت شهيتنا أمام المائدة الضخمة التى أخرجت فيها البيوت كل إبداعاتها. عشرة من النساء داخل غرفة متشحات بالسواد.. قالوا إنهن يعشن فى بيوت بنينها بالطوب اللبن حول بحيرة السد العالى على أراض تزرع بمجهودهن منذ عام 1997 والمنطقة تضم مئات الأرامل والمطلقات بعد أن حالت ظروف السكن فى منطقة التهجير بينهن والاستمرار فى الحياة هناك، حينما نزلت أغلبهن لأسوان يومى الخميس والجمعة للتسوق عدن ليفاجأن أن بيوتهن استولى عليها نفر من أبناء جهينة الذين يتمتعون بحماية أحد أعضاء مجلس الشعب الذى يحتكر ورجاله الصيد فى النصف الجنوبى للبحيرة.. تعرضن للضرب والسب والتهديدات بأنواعها وماذا تفعل نسوة عزل.. أين جهات الإدارة والأمن.. و.. وتقدمن لنا بشكوى موقع عليها من 25 امرأة لكن المحافظ أنكر علمه بحدوث هذه الوقائع؟!!.
|