تكملة 2
تبدأُ الإحتفالاتُ بعيدِ ( أكيتو ) في اليوم الأول مِن نيسان ويتواصلُ لمدة إثني عشر يوماً ، ولكُلِّ يوم طقوسٌ احتفالية متنوعة خاصة به ، كانت الطقوس التي تُمارسُ في الأيام الأربعة الاولى تشمُلُ القيامَ بأعمال تطهير النفس بالتكفير عن الذنوب، حيث تُرَنَّمُ التراتيلُ وتُنحرُ الذبائح وتُقرأ الأشعارُ الخاصة بتقديم الشُكر، ولكن لم يكن يُسمَح بالدخول الى معبد ايساكلا المُشيَّد فوق بُرج بابل المدعو(ايتِمناكي ) إلاّ لكهنة المعبد لإقامة الصلوات ، وفي اليوم الرابع يُعلنُ رئيسُ الكهنة ( الشيشكالو Shishgalu ) بدءَ مراسيم الإحتفالات جماهيرياً ، حيث تُقرأ شِعرياً اسطورة الخَلق البابلية ( اينوما إيليش - ܐܝܢܘܡܐ ܐܝܠܝܫ Enuma elish ) في الهيكل مِن قبل رئيس الكهنة الذي تُحيطُ به جوقة كبيرة مِن المُمَثلين والمُمَثِّلات يقومون باداءِ الأدوار التفصيلية للملحمة . وفور الإنتهاء مِن هذه الفعَّالية ، يَتَوَجَّه الملكُ الى معبد إلهِ الكتابة ( نابو Nabu ) بنِ الإله ( مردوخ ) وهنالك يُقلِّدُه كبيرُ الكهنة صولجانَ الحُكم المُقدَّس ، وبعد ذلك تبدأ سفرة الملك الى مدينة ( بورسيبا Borcippa ) البعيدة عن بابل بنحو ( 17 كلم ) وهي مدينة الإله نابو ، يُمضي ليلاً واحداً في معبد إله المدينة الذي يحظى بالتقديس مِن قبل البابليين وكذلك الآشوريين الذين أفلَحتْ الملكة شميرام الكلدانية الجذور في ترسيخ عبادتِه في دولتها آشور . وفي ( بيث أكيتو - بيت السنة الجديدة ) يُعيدُ كبيرُ الكهنة قراءة اسطورة الخليقة ، ويُناشدُ الملكُ الإلهَ نابو طالباً مُساعدته لإخراج الإله ( مردوخ ) مِن عالَم الظلام الكوني .
في اليوم الخامس يبدأ مِشوارُ عودةِ الملك البابلي الى بابل وبصُحبتِه تمثال الإله ( نابو ) ولدى وصوله الى ( بَوّابة اوراش Urash gate ) في الجانب الجنوبي الشرقي يُترَكُ التمثالُ هناك ، ويتوَجَّه الملك نحو بَوّابة معبد الايساكلا ، وعند مدخل البوابة يستقبلُه كبيرُ الكهنة حيث يقوم بتجريدِه مِن شارات الأُبَّهة الملكية ( التاج والحلقة والسيف ) ويطلب منه الوقوف أمامَ تمثال الإله ، ثمَّ يبدأ بالضرب على خَدَّيه ويُباركُه ، بينما يكونُ الملكُ يتلو اعترافاً بكونِه بريئاً وباراً ولم يرتكب خطايا وذنوباً ويُنهي الإعترافَ بقولِه : " يا سيد البُلدان إني لم أرتكِب خطيئة " ، وبعدئذٍ يقوم الكاهن الأعلى بمخاطبة الملك باسم الإله وبصوتٍ جهوري قائلاً : إنَّ مطلبَكَ وتوَسُّلَكَ قد سُمِعا ونالا قبولاً لدى الإله ، ولذلكَ فإن سُلطانَكَ وسؤددَكَ على الشعب وعلى البلاد سيثبُتان ويَتوَسَّعان ، ثمَّ يُعيدُ للملك شاراتِه الملكية بعد تطهيرها بالماء المقدس ، وللمرة الثانية يضربُه على خَدِّه فإذا أدمَعَتْ عينا الملك فتلك علامة أو رمزٌ أو آية فألٍ وطالعٍ سعيد لسنةٍ جديدةٍ مُتمَيِّزةٍ بغزارة المطر وخِصبِ الأرض وامتلاء الأشجار بالأثمار ووفرةِ الغِلال .
بموجب هذه الطقوس الإحتفالية العجيبة والمُذهلة ، كان يُجعَلُ مِن الملك شخصاً مُنَزَّهاً مِن كُلِّ إثمٍ وشائبة ، ويُجَدَّدُ سُلطانُه كميلادٍ جديدٍ للكون ومُنَظِّم لأحداث السنة الجديدة القادمة ، وفي عصر هذا اليوم الخامس يقوم الملكُ بِرفقة كبير الكهنة ليرعى فعالية مادتُها ثورٌ وحشي أبيض اللون ، وفي هذه الأثناء ينتابُ الهيجانُ جموعَ الشعب فيزدادُ الشغبُ والإضطراب وبخاصةٍ لدى تَوَغُّل عربة الإله ( مردوخ ) في الشوارع مِن دون سائق ، الأمر الذي يُمَثِّل دليلاً على الفوضى والظلمة التي كانت تسود الكون قبل أن يقوم الإله ( مردوخ ) بتنظيمه . وفي غضون ذلك كانت الجموعُ تطوفُ بإرتباكٍ مُفعَمة بالحُزن والتوبة ، تُهَروِلُ يميناً وشمالاً يخنقها البكاءُ والزفرات وتتخللُها أصواتٌ مُجَلجِلة وعينُها شاخصة نحو الزَقورة حيث قبر الإله ( مردوخ ) المُحتجَز في العالَم السُفلي المُكتَنَف بظلام دامس والمُغَطى بالغبار والتُراب ، وهو ينتظر أن يأتيه عَونٌ ونجدة بفضل جهود الشعب والآلهة الاخرى .
اليوم السادس مِن نيسان كان مليئاً بالأَمَل والرجاء ، تَخرُجُ فيه الجموعُ وتصطفُّ على ضِفاف النهر لتُشاهدَ وصول تماثيل الآلهة الأصنام الصابرة والقادمة لنجدة كبير الآلهة ( مردوخ ) الأسير ، آلهة المدن التي كانت مُحَمَّلة على مَتن السُفُن المقدسة السالكة عِبر النهر الآتية الى الميناء مِن مدن نُفَّر واوروك واور وسُبّار وكوثا وبقية المدن الاخرى، وكان مِن بين هذه الآلهة القادمة الإله ( نابو ) بن إله الحق ( مردوخ ) ذو الشهرة والأولوية بين تلك الآلهة ، الساكن في ( بورسيبا ) وقد قَدِمَ لغرض إنقاذ والده الإله ( مردوخ ) إذ كان حضورُه جوهرياً لأداء دور الآمر والمُرشد على رأس كوكبة مِن الآلهة في انطلاقةٍ مُظفرة مُنظمة على طريق النهر. وكان الملك بذاتِه يتهَيّأ لتقديم ذبيحة الدم .
في اليوم السابع يجري تنظيف تمثال كبير الآلهة ( مردوخ ) ويُدَثَّر بلباسٍ جديد وكذلك يُفعَل للآلهة الاخرى ، بعد ذلك يتوَجَّه الإله ( نابو ) لزيارة إله الحرب ( نِنورتا Ninorta ) في معبدِه ، وهنالك يتفقان على قتال أكبر إلهين مِن آلهة الظلام فينتصران عليهما ، ثمَّ يحملُ الكهنة تمثاليهما ويذهبوا بهما الى معبد الايساكلا ويضعوهما الى جانب تمثال كبير الآلهة . وفي اليوم الثامن الذي كان يوماً عظيماً ، حيث يتمكن كبير الآلهة ( مردوخ ) مِن تحرير ذاته والإنبعاث مِن مِن جديد، فتتضاعف الإحتفالات حِدة وتصلُ ذروتها لدي قيام الملك البابلي بالدخول الى مثوى كبير الآلهة ويُبادر للإمسك بيده وجَلبِه الى باحة ايساكلا الرئيسية ، فتتقدم كُلُّ الآلهة التي قد تَمَّ إخراجُها مِن غرَفِها نحو إله بابل الرسمي الإله الأسمى لبلاد ما بين النهرين ، لتقديم ولائها المُطلق له ومَنحه السُلطة المُطلقة مُعترفة بأولويته عليها جميعاً ومُردِّدَة أسماءَه الخمسين المُركَّبة ، وكانت تلك اللحظات توجِبُ على الجموع التحلِّيَ بالصمت والهدوء وقتَ امتزاج الحزن والألم مع حلول البهجة والفرح .
في اليوم التاسع مِن نيسان يقوم الملك البابلي بقيادة مركبة الإله ( مردوخ ) المُوشّاة بالذهب والفضة تَتبَعُها عربات الآلهة الاخرى مُشكِّلة موكباً جميلاً ومُنسَّقاً وهي تخترق شارع الموكِب متوجِّهة صَوبَ النهر ، يصحَبُها مجموعات مِن المُغَنين والموسيقيين ينشدون ويعزفون ، بينما كانت الجموعُ تؤَدي فريضة التَعَبُّد بالركوع أمام الموكب عند مروره بجوارهم ، وبعد تطوافٍ غير قصير على ضِفاف الفرات يُغادرُ الموكب بابل الى معبد ( بيت أكيتو ) الواقع في بُستان كثيفٍ بالزهور وأنواع النباتات والأشجار ، حيث يُعطي الملكُ إشارة لتبدأ فرقة الإنشاد بترتيل الأناشيد الطقسية بضمنها تلك الخاصة بإلهة الخصب والحرب ( عشتار ) الى جانب تلك المُخصَّصة للإله ( أيا ) والد الإله ( مردوخ ) ، أما الترتيلة الأخيرة فتتضمَّن جواباً لسؤال الآلهة عن السبب المُبَرِّر لتركِهم معابدَهم ، وكان الجواب " ضرورة مُشاركتِهم كبير الآلهة ( مردوخ ) بهذه المناسبة الوطنية الهامة .
في ليلة اليوم العاشر مِن نيسان ووفقَ هذا التنسيق المُنَظم تجري مراسيم الزواج المُقدس للإله مردوخ والإلهة عشتار في هيكل ايساكلا أو في الزقورة أو في مقصورة الكاهنة الكُبرى التي يُطلق عليها ( كاكوم Gagum ) . أما في اليوم الحادي عشر فتُدعى الآلهة بأجمعِها الى اجتماع عام لإقرار الوعود التي قطعتها لكبير الآلهة ( مردوخ ) يوم الثامن مِن نيسان ، وفي اليوم الثني عشر والأخير تحضر كافة الآلهة المُشاركة الى معبد ايساكلا ويبدأ ترديد الأدعية والتمنيات ليكون العام الجديد مليئاً بالخيرات . وفي ختام هذه الإحتفالات تُقام مأدبة فخمة لكافة سُكّان بابل والقادمين مِن المدن الرافدية الاخرى تتخللُها الموسيقى والأناشيد . ثمَّ يبدأ الكهنة بنقل آلهتهم الى معابدها التي جُلبوا مِنها وتبدأ الحياة بالعودة الى مجراها الإعتيادي ثانية
|