آراء جريئة حول القضية القبطية:حتى لا نفقد مصداقيتنا أمام فقراء شعبنا
اسم الكاتب : صموئيل بولس
02/10/2007
لعل من أبرز الأهداف البناءة لإنشاء موقع "الأقباط متحدون" هو إفساح المجال أمام الأقباط - بمختلف مشاربهم واتجاهاتهم - للتعبير عن رؤياهم لحل قضيتهم، وبحرية تامة، مهما تعارضت آرائهم مع سياسة الموقع، والتي باتت تتسم بالنهج العلماني الصريح الذي أذاب القضية القبطية شديدة الخصوصية في قالب واحد يضم بقية قضايا أقليات الشرق الأوسط، بدون تمييز، بالرغم من الطابع المسيحي الذي يميز القضية القبطية عن سواها من قضايا الأقليات الأخرى، كالأكراد، والبهائيين، والدارفوريين، والأمازيغ. . . إلخ.
وبالرغم من ذلك، لا يزال الموقع يرحب بآرائي المخالفة لهذا التوجه، لكونها تنظر للقضية القبطية من مفهوم مسيحي خالص له طابع شديد الخصوصية ينبغي الحفاظ على خصوصيته وعدم السماح بصهره في قالب بقية الأقليات الأخرى، مع كامل احترامنا لها، لكننا نختلف عنها شكلاً وموضوعاً لكونها قضية مسيحية أرثوذكسية خالصة ترجع بجذورها إلى عصر المجامع، لذلك ترفض خلطها بقضايا بقية أقليات الشرق الأوسط، بل وترفض مبدأ تعريف الأقباط ب "الأقلية" من الأساس. وترى بأنه لا يمكن فهم القضية القبطية إلا في سياق قضية (صراع السيف ضد الصليب). الأمر الذي يجعل من كتاباتي تبدو وكأنها أشبه ما تكون بالعزف المنفرد خارج منظمومة السيمفونية الجماعية، أو بمعنى أدق (التغريد خارج السرب).
فأنا الخادم القبطي الأرثوذكسي الوحيد الذي يكتب في هذا الموقع العلماني، وجل كتابه من العلمانيين، وبعضهم كتابٌ مسلمون ذو توجه طليعي معتدل. .
ولكن بالرغم من كل ذلك، فهو يرحب بمقالاتي، ولا يحجب آرائي، بل ويخصص لي هذه المساحة المستقلة "صموئيليات" لأستخدمها في التعبير عن آرائي التي تبدو مخالفة لسياسة الموقع، وهذا لعمري لهو قمة الديمقراطية الحقيقية التي جعلت من موقع الأقباط متحدون بمثابة (هايد بارك) الأقباط!
وليس أدل على ذلك قيام الموقع بدعوة الجميع –من مختلف التوجهات- بإبداء آرائهم الصريحة حول القضية القبطية.
وقد لبيت الدعوة، من ضمن الذين قاموا بتلبيتها، فأبديت رأيي في القضية القبطية –استناداً إلى خبرتي "العملية" فيها– باعتباري واحداً من أشد المدافعين عن حقوق الأقباط، ليس بالكلام التنظيري المجرد، بل بالوقوف أمام مديريات الأمن، وأقسام الشرطة، ومساجد المتطرفين. وفي الشوارع، والميادين، وفي القرى، والمدن. وداخل المقابر، وعلى الأرصفة، والمقاهي، وفي حواري وأزقات وعطوف شبرا، والشرابية، والزاوية الحمراء، والوايلي، ومنطقة شرق السكة الحديد.
وفي شبرا الخيمة، والدراسة، وإمبابة، ومصر القديمة، وفي المقطم، ومدينة السلام، وعزبة النخل، وأيضاً في مصر الجديدة والزمالك وجاردن سيتي!
وفي الاسكندرية، وبني سويف، والمنيا، وفي كل مكان يتواجد فيه أقباط يعانون من ظلم واقع عليهم، سواء أكان هذا الظلم من الحكومة، أم من الجماعات الإسلامية المتطرفة، أم من إسلام السلطة، أم من الغوغاء وال****، أم من خونة الأقباط أنفسهم.
حتى كنت أرى نفسي بمثابة جندي قبطي فدائي جسور من واجبه حماية أطفال الأقباط المهددين بالأسلمة القهرية لارتداد أحد والديهم عن المسيحية.
ولتوفير الحماية لفتيات الأقباط المهددات بالاختطاف، أو المعرضات للتغرير والخداع بسبب ظروفهن الأسرية. ولحماية الأقباط الذين أخطأوا وزلت أقدامهم في الطريق ثم ندموا وتابوا وقرروا الرجوع للمسيح، وللتخفيف عن معاناة أي معتقل قبطي تم اعتقاله ظلماً لا لشيء إلا لكونه قبطياً دافع عن دينه أمام مهاجميه. . كما حدث مع بائع فراخ إمبابة الشهير. وهكذا غصتُ في بحر القضية القبطية حتى أعماقها، وهكذا خضت العديد من المعارك التي أبليتُ فيها البلاء الحسن، حتى اضطررتُ أخيراً للخروج من وطني مرفوع الرأس، تاركاً خلفي ملفاً نظيفاً تشهد الكنيسة على نظافته.
وفي كل مرة أزور فيها مصر "بفيزا سياحية"، أجد آباء الكنيسة والخدام والشعب يستقبلوني بالترحاب وهم يعيدون سرد أحداث خمس سنوات من البطولة والكفاح والتضحية والرجولة في خدمة الحالات الخاصة، حتى صرت أحد علاماتها البارزة، بل وكما قال أحد الآباء العاملين في الحالات الخاصة:
(صموئيل هو المؤسس الحقيقي لخدمة الحالات الخاصة في العصر الحديث). وبالرغم من خروجي النهائي من مصر منذ 14 سنة، إلا أنني لا زلت أواصل جهادي من أجل نصرة شعبي القبطي، منطلقاً من مهجري القسري، وبشكل فردي تماماً، ومستقل عن كافة الهيئات والمنظمات والكنائس. وقد لخصت رأيي حول المسألة القبطية على النحو التالي: (إن حل قضيتنا القبطية يبدأ أولاً بالنهوض بالبنية التحتية لمجتمعنا القبطي) [راجع مقالي السابق].
وقد قلت ذلك بناء على واقع عشته وعايشته إبان خدمتي في الحالات الخاصة، أي أنه بمثابة شهادة حية أقدمها إحقاقاً للحق، الذي أراه يداس تحت نعال عدم الفهم الصحيح لإبعاد القضية القبطية، لذلك فأنا لا زلت مصمماً ومصراً على رأيي القائل، بأن التركيز على الجانب الرعوي لشعبنا القبطي في الداخل هو مفتاحاً لحل القضية القبطية برمتها، خصوصاً في هذه المرحلة الصعبة والخطيرة التي يمر بها شعبنا القبطي داخل مصر. حيث تضاعف الفساد والاضطهاد، وحيث انتشر الجهل والمرض والفقر والانحراف الخلقي، وبطرق رهيبة وغير مسبوقة. ولقد أكدت لي خبراتي الميدانية في خدمة الحالات الخاصة، إن شعباً جاهلاً ومشتتاً وفقيراً ومعدماً، لا يمكن له أن يعرف الإيمان، ولا الرقي، ولا التحضر، وبالتالي فلا يمكن له أن يعرف، أو يقدر قيم الحرية والكرامة وحقوق الإنسان، ما لم يجد من يأخذ بيده، ويهتم به، ويعمل على رفع مستواه، من خلال تأهيله اجتماعياً وذهنياً وعملياً، حتى يصبح مؤهلاً لمعايشة الإيمان المسيحي كواقع حياتي مسؤول يؤهله لاختبار نعمة الحرية التي منحها له المسيح القائل (يو 8: 36): "فإن حرركم الإبن فبالحقيقة تكونون أحراراً". فحرية السيد المسيح تكسب الإنسان رقياً وتحضراً، وبالتالي تجعله يتحرر من العبودية بشقيها الداخلي (الخطايا). والخارجي (ظلم الآخرين)، لذلك فنراه في الشق الثاني وهو يتحرر من خوفه، فيفتح فاهه معترضاً على الظلم والاستعباد والقهر، مطالباً بنيل حقوقه المشروعة، أو الموت. ولن نصل بشعبنا القبطي إلى هذا المستوى الناضج إلا من خلال النهوض بالبنية التحتية لمجتمعنا القبطي. ولنكن صريحين ونكف عن خداع أنفسنا، فالأغلبية الساحقة من شعبنا تعيش تحت خط الفقر، ويكفي أن نعلم أن شريحة غير قليلة من شعبنا قد احتكرت القيام بالأعمال المهينة مثل جمع القمامة، وتربية الخنازير، سواء في منطقة (الجبل المقطم)، أم سواء في منطقة (الزرائب) بعزبة النخل.
كما يكفي أن نعلم بأن لدينا جيشا جراراً من المعاقين ذهنياً، وحركياً، ومن أطفال الملاجئ.
بل ولا يمكن أن أنسى أبداً لقائي في سنة 1989 بزبال قبطي أشهر إسلامه من أجل الحصول على خمسة جنيه! وكان لهذا الزبال قصة مؤلمة تصلح لتقديمها كمسرحية تراجيديا، فهو كان متزوج من قبطية ريفية غلبانة نزحت من الصعيد، وأنجب منها ثلاثة أطفال، وتعرف على زبالة مسلمة عرفته على شيخ زاوية أعطاه خمسة جنيه، فأسلم على يديه! وذات مرة ضبطته زوجته مع صديقته الزبالة المسلمة في وضع مخل، فلم تحتمل المشهد، وسكبت الكيروسين على جسدها فماتت محترقة!
وقامت الكنيسة بإيداع أطفاله الثلاثة في ملجأ، أما هو فهام في الشوارع والطرقات، حتى جاء للكنيسة باكياً نادماً، وقصته هي التي دفعتني لإعداد مسرحية (عودة الإبن الضال) التي قام هو ببطولتها ومعه مجموعة من المرتدين العائدين من الحالات الكثيرة التي كنت أتابعها تحت إشراف الكنيسة.
ولتخجيلكم أكثر، أقول:
هل سبق لكم أن سمعتم عن امتهان بعض فتياتنا الفقيرات لمهنة الدعارة؟!
تخيلوا ضبط قضية دعارة كبرى نشرت في الجرائد والشبكة مكونة من ثمانية نساء، من بينهن ثلاثة قبطيات!
وهل سبق لكم وسمعتم عن سفاحة الرجال التي دوخت الأمن حتى قبضوا عليها وصدر ضدها الحكم بالمؤبد، ثم خفض بعد ذلك لعشر سنوات؟
تخيلوا أنفسكم عندما تعلمون أن هذه السفاحة من بؤساء الأقباط!
وهل سمعتم عن شباب من شعبنا الفقير قد أصبحوا من الخطرين جنائياً (فئة أ)؟
تخيلوا أنفسكم إنه هناك قبطياً واحداً يمكن أن يكون شقياً، ومسجل خطر (أ) وتخيلوا إنني كنت أتابع 9 منهم وليس مجرد واحد!
ستة من شبرا (4 منهم يقع محل سكناهم ما بين كنيستي الأنبا انطونيوس ومارمينا)!!!
والإثنين الاخيرين (يقع محل سكناهم بالقرب من كنيسة مارجرجس جزيرة البدران)!!!
ولا تسألني أين هم كهنة وخدام هذه الكنائس.
واحد من مصر القديمة، إثنين من شبرا الخيمة.
أما أنا فلم أسمع عنهم بأذني، بل رأيتهم بعيني، بل ذهبت إليهم بنفسي إلى حيث يقيمون، وكان أربعة منهم لا يزالون تحت المراقبة بعد انقضاء عقوبات السجن، والمراقبة لمن لا يعرف هي استكمال لحكم العقوبة وتقتضي بتواجد " الشخص الخطر" في قسم البوليس يومياً من الغروب إلى شروق اليوم التالي، للسيطرة على إجرامه. وتخيلوا إنني عندما أحضرتهم إلى الكنيسة، كاد الأمن أن يقبض عليهم على بوابة الكاتدرائية، نظراً لخطورتهم الشديدة على الأمن العام، لولا تدخل أبي الروحي وأستاذي في الخدمة، الذي أفهم الأمن بأن الكنيسة تسعى لقيادتهم إلى التوبة، وتتولى رعايتهم لتأهيلهم للحياة الشريفة.
وقد فوجئت ببعض زملائي من الخدام (الأفندية والبكوات المتخشبون) وهم يستنكرون على إحضاري لهؤلاء الأقباط البؤساء إلى كنيستهم التي هي بمثابة أمهم الحنون، بل وقالوا لي بتبجح: مستحيل أن نصدق أن يكونوا هؤلاء الحثالة هم من جملة شعبنا القبطي الراقي المتحضر!
ناسيين أن الفقر والجهل والإهمال ينتجون الكفر والتجديف.
بل وقال عني أحد الشمامسة الاإكليريكيين: صموئيل باين عليه عاوز يوسخ الكنيسة! عشنا وشفنا مسجلون خطر داخل الكنيسة!
لكن الكنيسة دافعت عني، فقالت له، ولأمثاله القساة:
بل صموئيل عاوز ينظف أبناء الكنيسة الذين شردوا عنها، فتوسخوا بمحاكاتهم لأهل العالم، وها هو يبحث عنهم لاقتيادهم إلى التوبة، والرجوع بهم إلى أحضان الكنيسة.
بل ولمضاعفة تخجيلكم من الحقيقة المرة أروي لكم مأساة هذا الطفل القبطي البريء (9سنوات) البطل الجريء الذي بالرغم من فقره الشديد ومرضه الأشد (مصاب بسرطان الدم) إلا أنه رفض أن يبيع المسيح وظل أميناً له حتى مات من شدة الفقر والإهمال، فكان موته بمثابة صفعة قوية على وجوه وجهاء شعبنا الذين أهملوا النهوض بالبنية التحتية لشعبنا، حتى صارت مفرخاً للتجديف والشقاء والبؤس:
+ هو شاب قبطي قروي معدم، من إحدى قرى المنيا، يعمل في فلاحة الأرض باليومية، يوم فيه شغل وعشرة ما مفيش، فقالوا له انزل مصر"القاهرة" وجرب حظك فيها دول (بيجولوا) بيقولوا إن فيها شغل كتير! فنزل القاهرة، ولم يجد ترحيب من أحد، أخيراً اشتغل عتال، وبعدها عامل أنفار، واستطاع أن يؤجر غرفة صغيرة في سكن مشترك، تعارف على فتاة قبطية معدمة، فرضيت بحاله وتزوجته، وأنجبا بطلنا، والذي ولد كملاك طاهر، وكانت أمه تصحبه معها للكنيسة، فأحبها وتعلق بها، وتعلم منها أصول الإيمان. تدهورت صحته فجأة، وشخص الأطباء حالته كسرطان في الدم، ويجب استبدال دمه كل 15 يوم، ويحتاج إلى أدوية وتغذية. أرهقا الوالد، فلجأ للكنيسة في منطقته الفقيرة، فلم يجد المساعدة المأمولة.
نصحه البعض بالذهاب لعرض حالة ابنه على أحد أثرياء الأقباط، لكنه رفض مقابلته واكتفي بإرسال 5 جنيهات له مع البواب!!
ولأن الوالد إيمانه ضعيف، فلم يحتمل العثرة، فكفر بالمسيح وذهب إلى الأزهر ليشهر إسلامه، وعرض مشكلة ابنه الصحية على بعض شيوخه، فوجد ترحيب بمعالجته داخل مستشفي إسلامي كبير. قام الوالد بعرض الأمر على طفله، لكن الطفل صرخ في وجه والده، وقال له: عاوزني أبيع المسيح علشان أخف؟ إن شاء الله ما خفيت! وأموت أحسن من أن أنكر المسيح!
صدم الوالد بإيمان ابنه، وقال له: إنت غاوي فقر زي أمك، أما أنا فلن أعود للفقر ثانية! وتركهم وتزوج من مسلمة وأنجب منها.
أما الأم المسيحية، فأخذت طفلها وأحضرته إلى البطريركية. فاستقبلتها في مكتب رعاية الأسرة والإرشاد الروحي، وما أن عرفت بنوع مرض الطفل، حتى تحركت أحشاء عواطفي نحوه.
كان جسد الولد هزيلاً جداً، والإعياء بادياً على وجه الملائكي الجميل، وكان له عينان تشعان بالذكاء، وقد سرد أمامي الحديث الذي دار بينه وبين والده المرتد بتفصيل أكثر، فقال بطريقته الطفولية:
(ضحكوا عليه، وخلوه يبيع المسيح بالرخيص، وقال إيه جاي يطلب مني أنا كمان أبيع المسيح زييه، بحجة علاجي، وإني صعبان عليه، لكن أنا قلت له إن شاء الله أموت واتقطع حتت ولا أبيع المسيح، دا المسيح حبيبي ونور عيوني مش ممكن أسيبه لو هاموت من الجوع)
+ اسمعوا يا أقباط مصر الجديدة والزمالك وجاردن سيتي، اسمعوا يا رجال الأعمال، اسمعوا يا أثرياء المهجر، لعلكم تفيقوا من غيبوبتكم.
+ كان يتحدث ودموعي تنساب على وجهي، احتضنته، عانقته، قلت له إنت من النهارده ابني.
أسرعت بعرض موضوعه على رئيسي المباشر، فأمر قدس أبونا القمص أنسطاسي الصموئيلي بصرف مساعدة فورية لأم الطفل، وصرف مساعدة شهرية ثابتة لتتعيش منها هي وابنها المريض، كما طالبني بعرض الطفل على طبيب مسيحي لبحث ما يمكن عمله معه.
كان الولد يستبدل دمه في مستشفي الدمرادش الحكومي، وقبل ذهابه للمستشفي يأتي إلى مكتبي بالأنبا رويس الملاصق للمستشفى، فأقوم بإخلائه من الناس، وأجلسه على حجري، وأطعمه بيدي، ثم أعطيه بعض الحلوى، وألعب معه وأداعبه، وأعطيه ملابس جديدة، ثم أعطي "الشهرية" لأمه.
تكرر هذا الأمر ثلاث مرات. في المرة الرابعة جاءت أمه لوحدها وهي ترتدي السواد.
انخلع قلبي، سألتها بفزع: فين. . .؟
فقالت بصوت تخنقه الدموع: تعيش أنت. . .؟
أعيش أنا!
أعيش إزاي؟
هكذا كان ردي.
وانهرت باكياً وأخرجت كل الناس من المكتب وانتحبت.
وزاد من نحيبي أن الام قالت لي: قبل أن يموت بساعة قال لي نفسي أشوف بابا صموئيل.
+ ابنكم "مينا" مات يا أقباط.
مات الطفل البريء ابن التسع سنوات وهو يستبدل دمه داخل مستشفي الدمرادش. وليس داخل مستشفي السلام، أو الحياة، أو سان بيتر. لأنه كان فقيراً.
لكن هل ترون من هو أشرف منا؟
مينا حبيب المسيح هو أشرف منا كلنا.
فكم يا ترى من مثل مينا ينادينا أن نرحمه ونخفف من ألمه؟
وبعد ذلك يقولون لي مؤتمرات وندوات.
مؤتمرات وندوات إيه؟ بلا خيبة!
ورخام إيطالي في الكنائس إيه؟ بلا وكسة!
+ أنصار حزب (كله تمام يا أفندم) المخملي، الحالم، يظن أنه بتعاميه عن رؤية ما في قاع مجتمعه القبطي سوف يجعل الأقباط يغنوا مع الفنانة الراحلة سعاد حسني:
(الدنيا ربيع والجو بديع وقفللي على كل المواضيع مافيناش كاني ومفيناش ماني...) متجاهلين إن عندنا (كاني)، بل وعندنا (ماني) كمان؟!
ولن نستطيع تقفيل المواضيع قبل أن نسعى إلى إيجاد حلول ناجعة لها لقضية (كاني) و(ماني)، والحلول الناجعة لن تتحقق بالكلام ولا باللسان، بل بالحق والعمل.
ومشكلتي –إذا جاز اعتبارها مشكلة– إنني لا أنتمي إلى المجتمع القبطي المخملي، أي لست بك، ولا أفندي، ولا خادم "مكاتب مكيفة".
بل أنا –ولي الفخر- خادم شوارع، وأقسام بوليس، وغرقت حتى أذناي في قاع مجتمعنا القبطي ورأيت فيه الكثيرين من ضحايا الفقر والجهل والجوع والتشرد والحرمان، وهي الأمور التي أدت بالكثيرين منهم إلى الكفر والتجديف والانحراف.
ورغم بشاعة أحوالهم، إلا أنني لم أتأفف منهم، أو أتنكر لوجودهم –كما يفعل البعض– إذ كيف للمسيحي أن يتأفف من إخوته وبني جلدته؟ ألم يقل السيد المسيح (مت 9: 13 & مر 2: 17): "فاذهبوا وتعلّموا ما هو. إني أريد رحمة لا ذبيحة. لأني لم آت أدعو أبراراً بل خطاة إلى التوبة"؟
"لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى"؟
ألم يكن هؤلاء ضحايا لجشع وأنانية أثرياء بني جلدتهم القساة الاستغلاليون؟
+ كيف نؤهل هؤلاء حتى نتمكن من إعادتهم مرة ثانية للحياة السوية فيشرفوا مجتمعهم القبطي؟
+ كيف تتم المصالحة بينهم وبين بعض أغنيائنا الذين تخلوا عنهم بسبب فقرهم؟
+ كيف يتم وقف استغلالهم من خلال تسخير بعض أغنيائنا لهم وتشغيلهم كخدم وبوابين؟
عرضت أمر هؤلاء البؤساء على رئيسي المباشر في الخدمة (الذي لم أجد إنساناً في الحياة مثل محبته وعطفه)، فقال لي:
اسمع يا ابني، الكنيسة كلها معك لإنقاذ هؤلاء المساكين التائهين، فهم أبنائنا على كل حال.
على هذا بدأت رحلة إنقاذ طويلة منذ تكريسي في أغسطس عام 1988 –لا تزال مستمرة حتى الآن– ولدي أعوان داخل الوطن، وجلهم من الكهنة والخدام والخادمات (لأني لا أخدم خارج نطاق الكنيسة)، حتى وإن كنت مستقلاً إدراياً عنها، أي لا أتقاضى راتباً منها، أو تعليمات مباشرة.
+ أما عن الفئات المتألمة من أجل الإيمان، فحدث ولا حرج.
ولولا حساسية ظروفهم لتحدثت عنهم بالتفصيل.
+ وجدت أيضاً الفئات التي تعاني من الألم المركّب، أي يعانون من الظلم والاضطهاد، بجانب معاناتهم من الفقر والمرض.
+ وجدت أيضاً المعاقين (وتعجبت لكثرة عددهم)، والمكفوفين، والصم والبكم، ومرضى المستشفيات، وأسر المساجين، وأسر المرتدين، ووجدت الطلبة المعوزين. وجدت الغالبية الكبيرة من شعبي القبطي المتألم. فقلت إن حل قضيتهم لن يأتي بالكلام، بل بالنهوض بهم.
+ لكن كيف أنهض بهم وأنا إنسان فقير لا يملك؟
والمنظمات القائمة علمانية الطابع، وبالتالي فلا تستهويها مثل هذه الاهتمامات المكلفة والمزعجة!؟
لكن تذكرت أنه وإن كنت لا أملك المال، إلا أنني أملك الإيمان بذاك الذي قال عن فحوى رسالته (يو 10: 10): "وأما أنا فقد أتيت لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل".
كما أملك محبة الناس لي، وثقتهم العجيبة في (رغم أن أغلبهم لم يروني وجهاً لوجه)، إذ أنهم من قراء مجلة (الحق والحياة) التي أصدرها من هولندا، وهم موزعون على العديد من بلاد المهجر، وينتمون إلى مختلف الكنائس والعرقيات بالشرق الأوسط، ويعرفوني من خلال كتاباتي فقط، فاستخدمت هذه المعرفة لمجد اسم الرب، والعمل على مساعدة شعبي القبطي المتألم، وتمجد اسم الرب معي، فجعلني أنجح فيما أخفق فيه الذين يملكون المال. صارت هناك مساعدات تصل للمحتاجين (وهي وإن كانت قليلة القيمة بالنسبة للبعض، إلا أنها كبيرة بالنسبة لوضعي)، بل وصار هناك مشروعاً عظيماً للمعاقين بتكلفة قدرها نصف مليون جنيه مصري تقريباً، تم إنجاز 90% منه بنعمة الرب، وسوف يعلن عنه في حينه.
فعلت كل هذا بدون أدنى ضجيج، إيماناً مني بأن القضية القبطية لن تحل بالمؤتمرات، بل بالنهوض بالبنية التحتية للمجتمع القبطي. لأنه ما أكثر المؤتمرات التي نظمها نشطاء أقباط المهجر من أجل إيجاد حل للقضية القبطية؟
وما أكثر أثرياء الأقباط الذين يتحدثون عن معاناة شعبنا؟ وما أكثر المقالات التي كتبت والأبحاث التي أعدت، والتي ألفت عن القضية القبطية؟
لكن ما أقل أعمال الرحمة التي قدمت لشعبنا المتألم، وإلا فعدوا لي كم مستشفي وكم ملجأ وكم مدرسة وكم مركز تدريب مهني، بنيت؟
وكم كرسي متحرك وسيارات للمعاقين، أرسلت؟
وكم عائلة من عائلات الحالات الخاصة، كفلت؟
لهذا الحديث الصريح الموجع.. بقية.