ومضت والدة صديقي لتروي ما اكتشفته حين قامت بتجديد الشقة قبل سنوات، إذ تبين لها أن هناك "نجمة دواد" نقشت في مكان سري خلف إحدى النوافذ، وبينما كانت تواصل حديثها طرق الباب، ففتح له صديقي فإذا بالسيدة والساعاتي يستأذنان في احتساء فنجان من القهوة، لأن "راشيل" ترغب في رؤية الشقة التي شهدت طفولتها وصباها المبكر، وبالطبع رحب صديقي ووالدته، وانضم إلينا الرجل وضيفته اليهودية المصرية، التي حرصت منذ البداية على تأكيد أنها ليست إسرائيلية بل هي مواطنة فرنسية، لأن أسرتها هاجرت قبل أربعين عاماً إلى باريس.
كانت تتحدث المصرية بلهجة قاهرية سليمة ومتدفقة سألتها: "كيف استطاعت الاحتفاظ بتفاصيل ومفاتيح اللهجة رغم مرور أربعين عاما؟"، فقالت: إن خبرة سنوات التكوين تظل راسخة في الوجدان مهما حدث، وربما تظنني أبالغ لو قلت إن السنوات العشرين التي قضيتها في مصر قبل الهجرة، هي الأكثر تأثيراً في حياتي، رغم مرور أربعة عقود على تلك الأيام، لكن هذه هي الحقيقة.
تحدثنا طويلاً، مرت أربع ساعات دون أن ننتبه، وكانت السيدة والدة صديقي كريمة لأبعد الحدود إذ أصرت على دعوة الجميع لتناول عشاء مصري يضم أطايب الطعام، محشي ورق العنب، و"فتة كوارع"، وملوخية بالأرانب، أما الحلو فكان "صوابع زينب"، ومشمشية بالمكسرات..
كل هذا وما أكلناه ونسيناه كما تفعل القطط، أكدت السيدة والدة صديقي، وهي في منزلي أم لكل أصدقاء ابنها، أنها لم تصنع لنا شيئاً خاصاً، وأنها تشعر بحرج بالغ، لكن قاتل الله الزمن الذي سلبها نشاط الشباب، حين كانت مع شقيقتها مسؤولتين عن إطعام "بيت عيلة" يضم أربعة عشر شخصاً، وانفتحت جدران ذاكرتها فاستطردت تروي عشرات الحكايات عن أحوال ذلك الزمان، واختتمت كل هذا بقولها "كنا فقراء حقاً، لكننا كنا سعداء راضين يحدونا الأمل في صنع مستقبل أفضل لأبنائنا، وكنا نجتهد في حياكة ملابس تجاري الموضة في باريس وروما، ومع ذلك كنا شرفاء، قياساً بما نراه هذه الأيام من انتشار الفساد والانحطاط الأخلاقي على الرغم من انتشار مظاهر التدين"، ثم استدركت قائلة إن ما يحدث الآن مجرد نفاق وتعصب وأعراض لأمراض اجتماعية، وليس تديناً حقيقياً، فالدين الإسلامي يقضي بأن تكون معاملة اليهود مماثلة تماماً للمسيحيين باعتبارهم "كتابيين"، ومع ذلك فلو عرف الجيران أنني استضيف الآن يهودية في منزلي، لقالوا عني ما لم يقله مالك في الخمر"..
..........