عرض مشاركة مفردة
  #2  
قديم 13-09-2005
afanous afanous غير متصل
Registered User
 
تاريخ التّسجيل: Mar 2004
الإقامة: NH, USA
المشاركات: 643
afanous is on a distinguished road
أول الخيط
من العجيب أن نجد أن نقطة القوة في بنيان الكنيسة الأرثوذكسية، هي ذاتها بؤرة الضعف التي نتج عنها ما نتصوره الخلل الرئيسي في بنيانها الفكري والتنظيمي، فالشطر الأخير من الترنيمة التي استهللنا بها تلك السطور يقول: حفظت بدماها الحق قويماً، وهذه العبارة هي فعلاً مفتاح شخصية الكنيسة المصرية، وكلمة أرثوذكسي تعني الرأي المستقيم، فأعظم خدمة قدمتها كنيسة الإسكندرية للمسيحية، هي أنها استطاعت الحفاظ على الإيمان المستقيم، ولولا دماء أبنائها، وبطولة بطاركتها العظام، وأشهرهم أثناسيوس الرسولي، ما استطاعت الكنسية العبور بالإيمان النقي خلال العشرين قرناً المنصرمة، ولكي تحقق الكنيسة رسالتها، كان لابد أن تتصف بصفة أساسية، هي التشبث بالأفكار والعقائد الأولى، التي أرساها تلاميذ المسيح والآباء الأوائل، ورفض أي تعديلات أو تخريجات، وهو ما اصطلحت الكنيسة على تسميته بالبدع، التي أصبحت في خطاب الكنيسة كلمة بغيضة، لما ارتبط بها من شطحات كانت بالفعل تهديداً للإيمان القويم.
لكن هذا كان يعني بالمقابل ثلاثة أمور في غاية الخطورة:
• الحجر التام على الأفكار، وغلق جميع المنافذ للتجديد والتطوير والمراجعة.
• الرأي الواحد وديكتاتورية النظام الكنسي، فما دامت الحقيقة ثابتة وواحدة، والقائد الأكبر هو الأمين عليها، فإن على جميع الأفواه أن تخرس، وعلى المؤمنين الطيبين أن يلتزموا بالطاعة لكي تحل عليهم البركة.
• التكتم وانعدام الشفافية أو المصارحة، فالكبار وحدهم هم الذين يعرفون كل الأسرار (السمائية والأرضية) وهم الذين يتدبرون أمور الكنيسة بحكمة من الروح القدس.

شجرة الطاعة
لا بأس بكل هذا، لو اقتصر الأمر على المسائل العقائدية الدينية، لكن المشكلة على الأقل كما نراها في صورتها المعاصرة، أن الملايين من الأقباط يتشكل تفكيرها ونظرتها للحياة، وتتحدد نماذج علاقاتها، في رحم الأم الكنيسة، التي تتسلم الطفل قبل أن يتقن نطق الكلمات، لتصب في أذنه، أو تضخ في رأسه أناشيد الطاعة والخضوع، وعلى أبناء الطاعة تحل البركة، ويتعلم كيف يقبل يد "أبونا"، ويلتمس البركة من يده المقدسة، يعامل الطفل كمشروع لكائن ذليل، كأن الذل والاستضعاف من علامات التقوى، وعندما يصل المرحلة الابتدائية يحفظ حكاية شجرة الطاعة، وخلاصتها أن راهباً قديساً يدعى الأنبا "بموا" جاء إليه شخص ليتتلمذ على يديه اسمه "يوحنا القصير"، وقد رأى الأنبا "بموا" أن الطاعة هي أهم ما يعلمه لتلميذه، وأن أفضل طريقه لذلك هي أن يأمره بأخذ عكازه وزراعته على بعد عدة كيلومترات في الصحراء بعيداً عن مكان إقامتهما، وأن يذهب يومياً إليه حاملاً جرة من الماء ليرويه، وتقول القصة أن بعد عدة سنوات من التعب المضني أورقت العصا وصارت شجرة، وسميت شجرة الطاعة، والجدير بالتنويه أن هذه القصة لا تروى على أساس أنها مجرد قصة خيالية، بل يقول تاريخ الكنيسة أنها حقيقية، وعندما تذهب إلى أديرة وادي النطرون، ستجد من يدلك على جذع شجرة جاف، ويقول لك هذه بقايا شجرة الطاعة!!
هذه القصة ليست مجرد نموذج اخترناه تعسفياً من خطاب الكنيسة الأرثوذكسية، لندلل على رأي ما، لكنها نموذج معبر عن مجمل خطاب الكنيسة، والذي يترسخ في وعي ولا وعي القبطي ليصوغ شخصيته ونظرته للحياة، ونستطيع أن نرصد المعالم التالية لما ينتج عن مثل هذه التعاليم في ذهن الإنسان:
• الطاعة الصماء البكماء العمياء للمعلم أو القائد.
• إطفاء نور العقل أو استئصاله من جذوره، وعدم التفكير في المعقول وغير المعقول، إذ يكفي عقل المعلم أو القائد، فهو بالتأكيد يعلم الحكمة من أوامره، وليس من وظيفتي ولا يتفق مع إمكانياتي أن أبحث بنفسي عن الحكمة المخفية في أوامر القائد، حتى ولو كانت في مثل شذوذ أوامر الأنبا "بموا".
• زرع الإيمان بالخرافة واحتقار العلم، فالعكاز الجاف قد صار شجرة وارفة، ليس بناء على حقائق علمية، ولكن بفضل بركة الأنبا "بموا"، وبفضل الطاعة، التي هي القيمة العليا في الحياة، وهي ضمان النجاح والفلاح!!

التراكم العشوائي
العمود الفقري لنظام الكنيسة هو نظرية "التسليم والتسلم"، فلأن المهمة المقدسة للكنيسة هي الحفاظ على إيمان الآباء المستقيم، فإن آلية الفكر والممارسة تقوم على تسليم الجيل الأكبر للأجيال التالية نص ميراث الأجداد، دون حذف أو إضافة أو تعديل، سواء بالنسبة للعقائد أو الطقوس، أو الأعراف والتقاليد، هي حزمة مقدسة تسلم من يد إلى يد لتعبر الأجيال والعصور، كاملة غير منقوصة ولا مزيدة ولا محرفة.
هذا هو المفروض نظرياً، وما قلنا أنه قد ترتب عليه استئصال الإبداع وغياب المراجعة والفرز، لكن الواقع أمر آخر، فالإضافات مستمرة عبر الأجيال، بشرط أن تتم بهدوء وبلا استفزاز لأحد، وعلى الأخص أحد الكبار العارفين بكل حقائق الإيمان، وهذا بلا شك أمر جيد، لأنه يعتبر بمثابة المسام التي يدخل منها الهواء المتجدد للصخرة الأرثوذكسية المصمته، لكن المشكلة أن هذا يجري في غياب لآلية الفرز والمراجعة، المجرَّمة في فلسفة الكنيسة، بل والمفتقدة أصلاً في ذهن الأجيال التي تربت في حضنها، لتكون النتيجة تسرب حقائق ممزوجة بالخرافات، لتكون ركاماً غير متناسق، يساهم في تغييب العقل القبطي، المطلوب أن يظل مخدراً وفي حالة بيات شتوي دائم، حتى يمكن تمرير كل هذا الركام دون اعتراض أو حتى تململ.
يحضرني هنا موقف من أيام الشباب، حين كنت أمضي بعض أيام الإجازة الصيفية في أحد الأديرة القريبة من مدينتي، وفيما أنا جالس بالمطبخ أنقي الفول من الحصى لتدميسه، مع راهب كان يطبع كتب عن معجزات البابا كيرلس، بادرني بالقول أنه نشر إعلاناً ليرسل إليه كل من حدثت معه معجزة للبابا كيرلس، لينشرها في كتابه القادم، فقلت له ببساطة وتلقائية: وكيف تفرز القصص الحقيقية من الملفقة؟ وكانت الإجابة المذهلة، التي لم أنسها بعد أربعة عقود، قائلاً: أنا بأنشر على طول، فما كان مني إلا أن نفضت يدي من تنقية الفول من الحصى، وقلت له وأنا لن أنقي الفول، فالسيد الراهب الناشر حريص على أكل الفول المدمس خالي من الحصى، لكنه لا يهتم بتنقية الغذاء الفكري للآلاف وربما الملايين، مما قد يتسرب لهم من خرافات وأكاذيب، يجدر التنويه بأنني رصدت بعد ذلك بسنوات أكثر من خمسة عشر كتاباً عن معجزات البابا كيرلس، رغم أن معجزات السيد المسيح تشغل عدة صفحات!!
نكرر أن غياب آلية الفرز والمراجعة في فكر الكنيسة أدى إلى خلود أكوام من الخرافات في تراثها، دون أن يفكر أو يجرؤ أحد على مراجعتها وتنقيتها، وليس هنا مجال التحقيق العلمي الشامل، لكن على سبيل المثال كتاب تاريخ الكنيسة "السنكسار"، الذي يسجل الأحداث الهامة بالكنيسة عبر العصور، يذكر في أحد الأيام حادثة كسوف للشمس، على أنها غضب من الله على خطايا البشر، وأن الله قد أعاد نور الشمس مانحاً عبيده فرصة للتوبة، والآن الكنيسة وكل كهنتها وأساقفتها علماء يحملون أعلى الدرجات العلمية، ما الذي يمنعها من مراجعة مثل هذه الصفحات وتصحيحها أو حذفها، هل لأننا مازلنا نعتقد أن الكسوف إنذار من الله على خطايانا، أم هو غياب آلية المراجعة والتصحيح، أم هو غياب العقل أو ضموره من الأساس؟!!
لا ينبغي أن يتبادر إلى ذهن غير المضطلعين أننا نتصيد هفوات استثنائية، فالكتب الكنسية فعلاً مليئة بالأعاجيب التي تستعصي على الحصر، وتقود إلى نفس النتيجة التي خلصنا إليها، فهناك صلاة للمسافرين تدعو لهم بالسلامة، وتعدد وسائل السفر: بالبر والبحار والأنهار والينابيع، ولا يفكر قبطي واحد كيف يمكن أن يسافر أحد بالينابيع، ونحن في عصر مكوك الفضاء، وسوف أتوقف عن ذكر المزيد لأن الله حليم ستار!!
هنا نسأل سؤالاً بسيطاً، هل القبطي التقي الذي يتربى في أحضان الكنيسة ويتشبع بخطابها، هل هو بعد ذلك سيكون قادراً على التمييز بين الأفكار المتضاربة في الحياة، سياسية كانت أم اجتماعية، وهل سيخطر على باله أصلاً أن يقوم بعملية فرز، أم أنه سيلجأ كما هو حادث الآن إلى الآباء الكهنة وقداسة البابا ليستفتيهم في كل صغيرة وكبيرة، فهذه هي مهمتهم، وكل ما عليه أن يجيد ابتلاع ما يقدمون له؟!
الرد مع إقتباس