رد من الاستاذ نبيل شـرف الدين
رسالة غير خاصة إلى الجنرال الطرابلسي: قدرنا بين ديموقراطية الاحتلال، وديموقراطية الاحتيال
"لقد أصبحت مصر بدورها الحالي عبئاً سياسياً وثقافياً واقتصادياً على العالم العربي"
توقفت طويلاً أمام هذه العبارة للدكتور إحسان الطرابلسي، الذي لا أعرف إن كان عراقياً، أو طرابلسياً مشرقياً أو مغاربياً، دكتوراً يحلل بموضوعية الباحث، أو جنرالاً يصدر القرارات التاريخية، وقد ألجمتني هذه العبارة، إذ أنني لم أكن لحظة من أنصار صدام، بل على العكس كنت في صدارة المنددين بنظامه، والمشهرين بمظالمه وجرائمه بحق العراق والعراقيين، وتحملت الكثير من الشتائم والسخائم في مصر وخارجها بسبب موقفي هذا، وهاهو جزاء سنمار العراقي يأتي من الطرابلسي ليسب مصر وشعبها بعبارات صريحة ومنها على سبيل المثال في مقاله الثاني وصفه للمصريين بأنهم "شكلوا مدرسة (الردح) والتهريج الإعلامي العربي. وما وصلني من بريد بذيء هو جزء من هذه المدرسة، وهو ما يمثل جانباً كبيراً من الشخصية المصرية (الردّاحة)"، وهنا بالتأكيد لست بحاجة إلى دروس من نوع التمييز بين الحكم والشعب، فالجنرال الطرابلسي لم يتناول النظام الحاكم وحده، ونحن ـ كليبراليين مصريين ـ نعارضه وننتقده ليل نهار، بل قال (مصر والمصريين)، وهنا لابد من وقفة مع الأحكام التي أطلقها علينا الجنرال الطرابلسي، ولو كانت على عجالة حتى لا يتحول الأمر إلى مهاترات مبتذلة، ولو نالنا الاتهام السابق التجهيز بالشوفينية.
وبداية أؤكد للسيد الطرابلسي أننا ـ كليبراليين مصريين ـ لم نتعلق بأوهام العروبة السياسية لحظة، بل نؤمن إيماناً راسخاً بالقومية المصرية، وهي مسألة بدأت بكتابات أستاذنا لطفي السيد، الذي وصف "الأمة المصرية" بأنها ليست كيانا حديثا، بل تعود بجذورها الي العصر الفرعوني السحيق، ولا تزال باقية حتي يومنا هذا برغم تقلبات الزمن، أمتنا الراهنة لا تختلف عن امتنا القديمة لأن الأمة كيان كلي متوحد لا يسمح بالتقسيم او التفتيت. إنها أمة، ولد كيانها الاجتماعي يوم قامت علي ارض الاجداد بنظامها الاجتماعي الخاص، وتقلبت حياتها بين العافية والسقم حتي وصلت الي ما صارت عليه اليوم.
وكان أستاذ الجيل لطفي السيد أول من يرصد الهجرات المتعددة من وإلى مصر عبر التاريخ، وتنوع سكان مصر المعاصرين، لكن لا يجادل أحد في أننا امة متفردة عن محيطها الإقليمي حضارياً، فلنا لوننا الخاص، ومزاجنا الخاص، ولغتنا الخاصة، وحتى إسلامنا مختلف فهو مزيج من التشيع واتباع السنة، وبه مؤثرات قبطية وحتى فرعونية، ولنا طرقنا الخاصة لإنجاز العمل، وأرضنا لها حدود طبيعية تفصلنا عن غيرنا، ولنا تاريخ قديم، نحن فراعنة مصر، وعرب مصر، ومماليك واتراك مصر، نحن المصريون.
.....
ولعلك يا سيدي لم تقرأ كلمة لي ولا لمجدي خليل ولا لمأمون فندي ولا لرضا هلال ولا محمد البدري ولا لنبيل عبد الفتاح ولا لأحد على ما يبدو، فرحت تختزل مصر في وجوه كالحة تستضيفها الفضائيات الثلاث (الجزيرة وأبو ظبي والعربية) بإلحاح يدعو للريبة، في وقت تضطر فيه إلى الاستعانة بنا على طريقة "ملح الطعام"، ومن هنا جاء حكمك على كل الكتاب والإعلاميين المصريين ظالماً، ويكشف عن موقف نفسي مسبق حيال كل ما هو مصري، وإن كنت لا أفضل الحديث عن حب مصر على طريقة وزارات الإعلام العربية، لكن ما كتبته يا سيدي الجنرال كان بشعاً وفوق الاحتمال، لأنك لم توقف عجلة شتائمك عند حدود النظام والفصائل التي يقتنيها من ناصرجية وقومجية وإسلامجية، بل ذهبت إلى أبعد الحدود، ووصفت بلداً وشعباً لم يكن لحظة هامشياً، بأنه صار عبئاً على العالم العربي، وكأنه لم يزل هناك شئ اسمه عالم عربي، أو كأن حال هذا العالم العربي المزعوم أفضل من حال مصر التي صارت عبئاً على حد تعبيرك، ورحت تسخر من الآلة الجنسية المصرية، ولا أفهم سر غضبك من هذا رغم توافر الفياغرا في الأسواق العالمية.
.....
نعم في مصر فساد وترهل سياسي، وجمهورية متقاعدين أحالت دور مصر على التقاعد، وفي مصر ما لا تعلمه أنت من أخطاء وخطايا، ونحن نكشفها ونعريها وننتقدها في الداخل والخارج، لكن في مصر أيضاً كل مفاتيح النهضة وأدواتها، وما أن تنفض غبار انقلاب يوليو المشؤوم عنها، وما جلبه من عسكر وبيروقراط فاسدين ومستبدين ليجثموا على صدرها حتى يومنا هذا، ستكتشف روعة المكان وعبقرية هذا الشعب العجوز الذي استطاع "تمصير" حتى أعدائه، لأن مصر يا سيدي الجنرال الركن ليست اختراعاً حديثاً، ولا جمهورية ثروة طارئة غير مبررة، ولا دولة مصادفة تاريخية، ولا مملكة طوائف، بل كانت هنا أقدم دولة مركزية في التاريخ المعروف، ولم تكن يوماً عبئاً على أحد، حتى في أحلك ظروفها الراهنة، مازالت هي الدولة الوحيدة القادرة على ردع إسرائيل، ولديها الجيش الوحيد في المنطقة الذي تحسب له إسرائيل حساباً، وهنا أجدني مضطراً للتأكيد على أنني من أنصار السلام، وهذا يقتضي أن أكون أيضاً من أنصار الاستعداد للحرب والتأهب لها كأنها ستندلع اليوم، إن هي استحكمت حلقاتها لا قدر الله.
......
ولعلك لم تقرأ قدراً كافياً يا سيدي الجنرال الطرابلسي عن حقبة مصر الليبرالية قبل انقلاب يوليو العسكري، فمصرنا التي كانت هبة الثقافة، وهبة الحرث والزرع، والري والحصاد، وصانعة المحبة وبنت الانسان، أصبحت بعد هذا الانقلاب البغيض مرتعا للغربان الناعقة، والبوم الناعب، فقد اصبح الابداع جريمة، والرأي تهمة، وذهب جهاد طه حسين وعلي عبد الرازق، وقاسم امين، واحمد لطفي السيد، ولويس عوض، وسلامة موسى وغيرهم من اجل بث التنوير وتحدي الظلام سدى، فها نحن الان ومع الالفية الثالثة اصبح المفكرون في رعب بعد ان قتلوا فرج فودة وطعنوا نجيب محفوظ وحرضوا على يوسف شاهين، بل وصل الامر الى الدخول الى غرف النوم وتفريق الازواج عن زوجاتهم كما حدث مع نصر أبو زيد، وصار "شعبولا" بديلاً لعبد الوهاب، وجلس الفاسدون والمترهلون على مقاعد سعد زغلول باشا، ومصطفى النحاس باشا، وطه حسين، كل هذا يمنحك وغيرك الحق في التجرؤ على مقام المحروسة، ويجبرنا على ابتلاع الإهانات، وربما يضطرنا إلى الاستعانة بخبرات بريمر ومجلسه الانتقالي ذات يوم، فعلى ما يبدو أن المصريين، بل وعموم العرب باتوا بين خيارين لا ثالث لهما، بين خيار ديموقراطية الاحتلال التي نتمنى ـ كليبراليين ـ ألا تتحول إلى كارثة أو فضيحة، وديموقراطية الاحتيال التي تمارسها الأنظمة الشائخة الفاسدة الجاثمة على صدر الأمة منذ عقود، وتسعى إلى تجميل صورتها القبيحة بألاعيب احتيالية تخاطب بها واشنطن قبل أن تتجه بها إلى الشعوب التي أوكلت أمرها إلى الأمن والغلاء والفساد والإحباطات اليومية، وعلينا أن نختار بين المحتلين والمستبدين، فليس ثمة خيار ثالث في المدى المنظور.
----
يتبع
|