أصلحنا مأثرتك ، فبنيناها على المعجزة ، والسر ، والهيبة . وابتهج الناس إذ رأوا أنفسهم يـُقادون من جديد كما يـُقاد قطيع ، ورأوا أنفسهم يتحررون من تلك الهبة المشئومة التي وهبتها لهم فكانت مصدر أنواع من العذاب قاسوها
قل : هل كنا على صواب حين فعلنا وعلمنا على هذا النحو ؟ هل يمكن أن يؤخذ علينا حقاً أننا لم نحب الإنسانية حباً كافياً ، بينما نحن اعترفنا بوهنها في كثير من الإذعان والتسليم ، وخففنا عنها الحمل في كثير من المحبة حتى لقد أبحنا لها أن ترتكب الخطيئة لعلمنا بضعف طبيعتها ، شريطة أن تستأذننا في ذلك كل مرة ؟
فلماذا تجئ الآن لتعرقل عملنا ؟ مالك تحدق إلي هكذا صامتاً بعينيك الرقيقتين النفاذتين ؟
أحرى بك أن تغضب . إنني لا أريد محبتك ، لأنني أنا نفسي لا أحبك . ولست أحاول أن أخفي عنك شيئاً لأنني أعلم من ذا الذي أخاطب ، أليس كذلك ؟
ثم أنك تعرف كل ما قد أقوله لك ، أقرأ ذلك في عينيك . ففيم المواربة والحالة هذه ؟
إن سرنا لن يخفى عنك فلعل ما تريده إذن هو أن تسمع هذا السر من فمي ؟
ليكن لك ما تريد ألا فاعلم أننا لسنا معك ، بل معه هو . ذلك هو سرنا
إننا منذ زمان طويل قد كففنا عن أن نكون معك ، وتحيزنا له هو. فمنذ ثمانية قرون قبلنا منه ما سبق أن رفضته أنت مستاء ، أعني الهبة الأخيرة التي عرضها عليك وهو يشير لك إلى ممالك الأرض : لقد قبلنا أن نأخذ من يديه روما وسيف القيصر ، وأصدرنا قراراً بأن نكون لهذا العالم ملوكه الوحيدين ، رغم أننا لم ننجز إلى الآن عملنا
ولكن من المذنب في هذا ؟ إن هذا المشروع ما يزال في أوله ، ولكنه بُدئ . ولابد من الصبر طويلاً قبل أن نصل به إلى غايته ، ولابد من آلام كبيرة في هذه الحياة الدنيا ، ولكننا سنبلغ هدفنا وسنصبح قياصرة . وسيتاح لنا عندئذ أن نفكر في سعادة شاملة تنعم بها الإنسانية
لقد كان في وسعك أن تقبل سيف القيصر حتى آنذاك ، فلماذا رفضت تلك الهبة الأخيرة ؟
لو اتبعت الوصية الثالثة التي نصحك بها الروح القوي ، إذن لكان في وسعك أن تحقق كل ما يتمناه الإنسان على الأرض ، وهو أن يعرف : من يطيع ، وإلى من يعهد بقيادة ضميره ، وبأي وسيلة يوحد جميع البشر في مجتمع كمجتمع النمل ، واحد كبير منظم. ذلك أن الحاجة إلى الوحدة الشاملة هو ثالث عذابات النفس الإنسانية وآخرها
إن الإنسانية قد حاولت في جميع الأزمان أن تنظم نفسها على أساس شامل
إن هناك أمماً كثيرة عظيمة كان لها تاريخ مجيد ، ولكن شقاءها كان كبيراً على مقدار نبلها ، لأنها أحست أكثر من غيرها من الشعوب بالحاجة إلى التوحيد الشامل للبشر
إن الغزاة الكبار ، من أمثال تيمورلنك وجنكيزخان ، الذين مروا على الأرض مرور إعصار مخرب ، كانوا يتوقون إلى أن يصبحوا سادة العالم بأسره ، ولكن شوقاً عميقاً واحداً إلى توحيد جميع الشعوب كان يحركهم دون أن يشعروا بذلك
فلو أنك قبلت دنيا القياصرة ومقامهم، لكان في وسعك أن تبني المملكة الشاملة وأن تكفل السلام الشامل للإنسانية. على من يقع عبء حكم البشر إن لم يقع على أولئك الذين يحكمون ضمائر البشر والذين يملكون خبزهم؟ لقد أخذنا سيف القيصر إذن، وإذا فعلنا ذلك فقد أنكرناك أنت لنتبعه هو
ستنقضي قرون طويلة من عربدة العقل البشري الحر والعلم البشري وأكل لحوم البشر، ذلك أنهم ما داموا قد شرعوا في بناء برج بابل بدوننا لابد أن ينحدروا حتماً إلى أكل لحوم البشر
ولكن "الوحش" سيجيء بعد ذلك إلينا زاحفاً، وسيلعق أرجلنا التي سيبللها بدموعه الدامية. وسوف نركبه، ونرفع نحو السماوات كأساً نقشت عليه هذه الكلمة : "السر!" ويومئذ سيحل ملكوت السلام والسعادة للإنسانية
إنك فخور بصفوتك المختارة، ولكن الصفوة وحدها معك، أما نحن فسوف نعرف كيف نحمل الطمأنينة إلى جميع النفوس
وحتى بين أبناء هذه الصفوة المختارة، حتى بين هؤلاء الأقوياء، ما أكثر الذين كانوا يتطلعون إلى خدمتك، فانتظروك عبثاً، ثم سئموا من الصبر الطويل العقيم، فوقفوا قوى فكرهم وحماسة قلبهم على غايات أخرى، وانتهى بهم الأمر إلى رفع راية حريتهم عليك! ألست أنت الذي أعطيتهم راية الحرية هذه؟
أما نحن، فإن البشر سيكونون سعداء معنا، وسيعزفون عن التمرد علينا. ولن يبيد بعضهم بعضاً كما يفعلون الآن في كل مكان بفضل الحرية التي تركتها لهم
وسوف نعرف كيف نقنعهم بأنهم لن يكونا أحراراً إلا متى تنازلوا عن استعمال حريتهم لصالحنا وخضعوا لنا. هل ما نقوله لهم هو الحقيقة أم هو كذب؟
إنهم لن يلبثوا أن يدركوا أنه هو الحقيقة، لأنهم سيتذكرون أهوال العبودية والبلبلة التي قادتهم إليها حريته
|