فلنتابع الجزء الرابع والاخير من المقال ....
إقتباس:
تربيت كمسلم وكشأن الكثير من المسلمين وغيرنا ممن فطروا على التفكير البدائي فتصورنا الله "سبحانه وتعالى" وكأنه إنسان ضخم جالس في السماء يرسل المطر كمكافأة على الطاعة والامتثال لأوامره ويرسل الزلازل والريح الصرصر العاتية كعقاب على الإثم والفجور. تتم تربية الطفل وبداخله يتم غرس خوف من الله ورعب من جلاله؛ فكما يرتعب من الحرائق وصوت الرعد يرتعب كذلك من نيران الله. تصورناه كأطفال مسلمين وكأنه إنسان ضخم، يجلس في عرش السماء ويوزع الأرزاق متباهياً أنه الغني ونحن الفقراء (سورة محمد آية 28) ويتباهى في خيلاء أعرابي قائلا: "ألم أقل لكم أني أعلم ما لا تعلمون" (سورة البقرة آية 30)؛ إنه يتحكم في المصائر كيفما شاء، يهدي من يشاء ويضل من يشاء، عن يمينه حدائق وعن يساره حرائق. تأتي المسيحية وتهدم هذا التصور البدائي والذي هو من مخلفات العقل البدائي فتخبرنا أن الله خالق الكون وما فيه هو أب. أقصى ما يشتهيه الله ليس التعظيم والتفخيم النرجسي بل الإنسان والإنسان فقط وهو القائل في الوحي الطاهر في سفر الأمثال 8 وآية 31 "ونعيمي مع بني البشر". هذا يوافق ما قاله فيما بعد القديس إيرينيوس في كتابه "الرد على الهرطقات" (St. Irenaeus, Against the Heresies, IV,20,7) ما جاء باللفظ التالي باللاتينية " "Vivens homo gloria Dei; vita hominis, visio Dei" والتي تقول إن مجد الله هو الإنسان الحي، وحياة الإنسان هي ظهور لله. كلما صار الإنسان حياً وتفيض فيه الحياة بقوتها وصار ممتلئاً بها، كلما تمجد الله. هذا ما عناه المسيح لما قال: "أَمَّا أَنا فقَد أَتَيتُ لِتَكونَ الحَياةُ لِلنَّاس وتَفيضَ فيهِم" (يوحنا 10: 10).
الرقي المسيحي يضع حرية الإنسان أولوية أولى وأخيرة مادامت حرية نفهمها في ضوء حرية الله نفسه ولا تصير الحرية فرصة لاستعباد الإنسان نفسه بنفسه راسفاً في أغلال الخطيئة كما نهانا القديس بولس قائلاً في غلاطية 5: 13 "إِنَّكم، أَيُّها الإِخوَة، قد دُعيتُم إِلى الحُرِّيَّة، بِشَرطٍ واحِدٍ وهو أَن لا تَجعَلوا هذِه الحُرِّيَّةَ فُرصَةً لِلجَسَد، بل بِفَضلِ المَحَبَّةِ اخدِموا بَعضُكم بَعضًا، 14 لأَنَّ تمامَ الشَّريعةِ كُلِّها في هذهِ الكَلِمةِ الواحِدة: أَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفْسِكَ". بحسب هذا الكلام، نقيض الحرية هو الأنانية والحرية ينتج عنها أننا نتفانى في خدمة بعضنا البعض. وهذا هو سمو الضمير المسيحي والذي فيه يتم تقدير الإنسان على أنه سيتخذ قرارات واعية مادام الله يسأله أن يقوم بالاختيار بنفسه في تثنية 30 وآية 19 "قَدْ جَعَلتُ قُدَّامَكَ الحَيَاةَ وَالمَوْتَ. البَرَكَةَ وَاللعْنَةَ. فَاخْتَرِ الحَيَاةَ لِتَحْيَا". يظهر رقي الضمير المسيحي هنا في أن الله يحترم الإنسان فصار ضمير الإنسان هنا لا ينشأ من خوف من السماء أو رهبة من العقاب أو نتيجة شعور مقيت بالذنب وكأن الأمر ترغيب وترهيب. نفعل الخير هنا لا طلباً في الثواب ولكن طلباً للخير حيث قال المرنم خيري لا شيء غيرك. سنتفانى في فعل الخير لأننا لا نملك إلا أن نحب تماماً مثل غريزة الأمومة وهي لا يسعها إلا أن تكون أُمّاً فتعطي دون حساب؛ والحب هنا يترجم في أفعال خيرة وابتعاد عن الشر؛ فالضمير الذي يتكون من خوف ينهار عندما يأمن وأما ضمير العبيد يرقب أعماله في وجل وإذ بخطواته تتعثر فيعيش في رهبة لئلا تطاله عدالة السماء وهو دائما في جحيم من الخوف والرهبة ويخشى الحساب العسير يوم الدين. أمام هذا نسمع صوت الإنجيل قائلا: المحبة الكاملة تطرح الخوف خارجاً ولا خوف في المحبة. ثقوا أنكم أبناء والابن لا يفقد بنوته لأي سبب من الأسباب. أنا أبوكم وأنتم أبنائي؛ فليغمركم الأمان وتملأكم الطمأنينة. أنا داخلكم وفيكم وأنتم فيّ ولا شيء يفصلكم عني وعن محبة المسيح، ولا حتى مائة مليون خطيئة. اسلكوا كأحرار لأنكم أبناء. افعلوا الخير لذات الخير؛ فالفضيلة جزاء نفسها والشر جزاء نفسه والعقاب عن الشر هو في الفعل ذاته؛ والأفعال يجب أن تفعلوها لذاتها لا طلباً في ثواب أو خوفاً من عقاب لأن الحب يدفعكم بقوته الإلهية في كل ما تفعلون. آمنت لذلك تكلمت، وأحببت لذلك فعلت. وكأني بالله يقول:عندما ترون ذاتكم فيّ، أريد لكم أن تحسوا بذواتكم إحساس القوة والثقة الذي يليق بالبنين؛ أبناء وبنات الله، وفي تلك اللحظة ترون ذاتكم كما هي فأجبر كسوركم، وأشفي سقمكم، وبلطفٍ أقوّم الاعوجاج.
في الرقي المسيحي لا نرى مسيحاً فيه إله يظهر ثم يختبيء في ناسوت ويتبادل الأدوار من حين لآخر مستعرضاً قدرته على فعل الخوارق مثلما هو لسان حال قوم عندما قال لهم الإله: ألم أقل لكم أني أعلم ما لا تعلمون؟ دائما نرى يسوع حاضراً في إنسانيته الكاملة وهو يدعونا أيضا لنحيا إنسانيتنا ولا نتنكر لمشاعرنا. كانت إنسانية المسيح حاضرة بنسبة مائة في المائة كما أنه ألوهته (من حيث هو كلمة الله) كانت هي الأخرى حاضرة بنسبة مائة في المائة؛ وعليه لا يحق لأحد أن ينكر عليه بشريته أو ننتظر منه أن يتنكر لها كما هو شأن قوم يسرفون على أنفسهم في التواضع والتقوى المزيفة فتختلط عليهم الأمور وبسبب هذا الخلط ظهرت مثلا بدعة الغنوص في أوساط المسيحية القديمة ولا تزال آثارها حاضرة إلى اليوم في بعض الأوساط. لم يكن المسيح روحانياً بالمفهوم الشعبي المبتذل في أيامنا فيسرف على نفسه في التقشف وما أكثر الذين يمزجون الغنوص القديم بروحانيتهم المسيحية حتى إنهم أنكروا على الإنسان أبسط الاحتياجات المادية. لم يخجل المسيح من المادة وهو الذي ارتضى أن يلبس طبيعتنا وجسدنا المادي البشري وقد قدّسه فيه بل ذهب للأعراس وشاركهم فرحهم وطربهم ولا أظن أنهم في أفراح ذلك الزمان كانوا ينشدون التراتيل المسيحية بل الأغاني العرسية الشعبية المنتشرة في فلسطين. كان يوحنا المعمدان متقشفاً زاهداً فأكل الجراد وهو يتبتل إلى الله في الصحراء. لاحظ المسيح أن الناس لا يرضيهم شيء فقال في إنجيل متى 11وآية 18: "جاءَ يُوحنَّا لا يَأكُلُ و لا يَشرَب فقالوا: لقَد جُنَّ. 19جاءَ ابنُ الإِنسانِ يَأَكُلُ ويَشربَ فقالوا: هُوَذا رَجُلٌ أَكولٌ شِرِّيبٌ لِلْخَمْرِ صَدِيقٌ لِلجُباةِ والخاطِئين. إِلاَّ أَنَّ الحِكمَةَ زَكَّتْها أَعمالُها". حقاً كان المسيح يأكل كأي إنسان عادي ويستطيب الطعام ويشرب الخمر ويصادق الجباة والخاطئين؛ وبهذا فهو قد خالف وخرج على توقعات الناس والتي تميل لتأطير الناس ووضعهم في قوالب يسجنونهم فيها فيصير على هواهم. لكن هذا ليس للبشر أن يقرروه بل هذا كان المسيح كامل الإنسانية والتي من خلالها يرتقي بإنسانيتنا ويرفعها لمستوى أعلى مما تصورناها بأن يشركنا في الحياة الإلهية التي كان يحياها من حيث نثبت فيه وهو فينا ونأخذ ما له بما أنه قد أخذ ما لنا.
الرقي المسيحي يقول لابد من احترام آدمية الإنسان وهو في أقسى مواطن الضعف على غرار المسيح الذي مثلت أمامه المرأة الخاطئة فلم يحاسبها بل قال عبارته التاريخية: اذهبي ولا تخطئي.. ولا أنا أدينك يا امرأة. اليوم ديان الكون كله يقول: ولا أنا أدينك يا امرأة وياله من رقي حقاً.
|
انتهى المقال بحمد الله والله اعلم