الحوار المتمدن
سامر سليمان
للمصريين تاريخ طويل في نبش قبورهم. من نبش قبور فراعينهم بحثاً عن الذهب الذي حاول الملوك اغترافه إلى الأخرة بعد أن استخلصوه من عرق الفلاحين في الدنيا إلى نبش قبور الموتى لسرقة الجثث ومن ثم بيعها إلى طلبة الطب الذين يفضل أن يتمرنوا على جثث قبل أن يمارسوا المهنة على أجسادنا الحية. ليس كل من نبش قبر يعد لصاً. فعالم التاريخ عندما بنبش القبور فهو يبحث عن كنوز من نوع أخر غير الذهب، كنوز المعرفة. والدولة عندما تنبش في قبر وجثة أحد مواطنيها بواسطة الطبيب الشرعي فهي تتحقق من أن صاحب هذه الجثة لم يمت قتلاً. نبش القبور في مثل هذه الحالات معقول.
لماذا إذن لا تريد الدولة النبش في قبور بعض مواطنيها؟ أحفاد الموتي تقدموا بشكاوى بأن بعضاً من موتاهم ماتوا غدراً، ماتوا ظلماً وعدواناً. الدولة هنا تقدم الرد القانوني والبيرقراطي المنطقي.. لقد انقضى على هذه الحوادث المزعومة مئات والاف السنين. لا شهود ولا متهمين ولا حتى ضحايا يمكن سماع شكواهم. هذه المعطيات لا تصلح لرفع قضية. أنسى. ولكن الرد القانوني لا ينفع حينما تكون القضية سياسية. السياسيون لا يقدموا فقط قوانين وسياسات وخدمات ولكنهم يقدمون أيضاً سلعاً رمزية، مثل التقدير والاعتراف. ما معنى موجة الاعترافات التي انتشرت في السنوات الأخيرة، مثل اعتراف الكنيسة الكاثوليكية بخطاياها في حق العلماء وفي حق اليهود؟ واعتراف البرلمان الفرنسي بخطايا الغير، أي خطيئة إبادة مئات الالاف والملايين من الأرمن المتهم فيها الجيش العثماني؟ ما معنى اعترافنا نحن بخطايا الغير، بجرائم إسرائيل في إبادة وتشريد الملايين من الشعب الفلسطيني؟ المعنى واضح.. السياسة فيها مواقف واعترافات، فالاعتراف بالخطايا هو تعهد بعدم تكرارها في المستقبل.
لماذا لا تريد الدولة المصرية الاعتراف بخطاياها في الماضي؟ هناك جماعة في مصر تتهم الدولة المصرية القديمة بأنها اضطهدتهم منذ أن دخلت المسيحية مصر سواء في ظل الرومان أو في عهد الحكم العربي. الرد القانوني هو أن القائمين على هذه الدولة القديمة قد شبعوا موت، لذلك فالقضية لا محل لها من الإعراب. المشكلة أن الدولة المصرية اليوم تدعي بنوتها للدولة العربية الاسلامية. والبنوة لا ترتب فقط مواريث ولكن أيضاً ديون. واحدة من اثنين.. إما أن تنكر الدولة اليوم أية علاقة لها بأمجاد الدول العربية التي حكمت مصر (وأنا أفضل هذا الاختيار)، أو أن تقدم إلى جانب أمجاد هذه الدول كشف بخطاياها في حق المصريين. الأمر نفسه يجب أن ينطبق على دولة الفراعنة. أما أن تنكر الدولة اليوم أية علاقة لها بأمجاد الدولة الفرعونية أو أن تقدم كشف حساب بالخير الذي استقطعته من الفلاحين الغلابة لكي تتمكن من بناء الاهرامات والمسلات والقصور. المشكلة أن الدولة اليوم لا تريد النبش في قبور الفراعنة، لأن النبش في الاهرامات القديمة هو دعوة للنبش في الاهرامات الجديدة. ومن يسائل خوفو اليوم عن تكاليف بناء الهرم الأكبر سيسائل الحكام الحاليين غداً عن تكاليف تشييد قصورهم وقصور أصدقائهم.
بالمثل، الدولة لا تريد سماع قصة الأقباط في مصر أبان الحكم العربي ليس فقط لأن تلك القصة هي خير دعاية للنظم العلمانية الحديثة التي لا تزال الدولة هنا تتردد في تبنيها، ولكن لأن قصة الأقباط في ظل الحكم العربي تستدعي بالضرورة الكلام عن الضرائب، سواء لأن الأقباط عوملوا معاملة ضريبية مجحفة بسبب ديانتهم (الجزية) أو لأن حكام مصر العرب قرروا ألا يستغنوا عن خدمات جباة الضرائب الأقباط ، إما بسبب الحاجة إلى كفاءاتهم الإدراية أو للاستمتاع بمشاهدة السخط على جباة الضرائب يتحول إلى سخط على ديانة جامعي الضرائب. عندما ترفض الدولة في مصر اليوم النبش في قبور الأقباط، فهي ترفض ذلك لأنها بالتأكيد ستقع على قبور جباة للضرائب، فتضطر إلى فتح ملف عمره أكثر من خمسة الاف عام، ملف يحتوى على قصة نهب عرق الفلاحين والعمال، قصة سرقة جزء هام من حصيلة الضرائب لبناء الاهرامات والقصور وليس لبناء الجسور وشق الترع.
هناك جماعة في مصر يشعر الكثير من أفرادها أنهم مواطنون درجة ثانية. وهو احساس لا ينفردون به. فمعظم أبناء وبنات الشعب المصري يشعرون بالفعل أنهم درجة ثانية أمام السلطة الغاشمة أو المال المتسلط أو القوة الحمقاء. نشطاء الأقباط يجدون جذور مظالم الأقباط في التاريخ، ويعتقدون أن مقاومتهم اليوم هو جزء من مقاومة أجدادهم في الماضي. لذلك سيعودون للتاريخ. الجيد هو أنهم يقدمون المثل للجماعات التي عانت من التمييز والاضطهاد لكي تكتب فصول جديدة من تاريخ مصر المنسي. السيء أنهم يستفزوا بعض المسلمين لكي يدخلوا في منافسة على من هو المضطهد أكثر . الجيد أنهم في عملية بحث دؤوبة في تاريخ مصر. السيء أنهم يحاكمون التاريخ بمقاييس الحاضر وأن معلوماتهم التاريخية إذا صحت لا توظف غالباً في تقديم رؤية للمستقبل ولكن في بناء رؤية طائفية منغلقة على ذاتها. هذه هي مشكلتي مع محاضرة الأنبا توماس في أمريكا والتي لاقت ما تستحقه من نقد وتفنيد من قبل الكثير من الكتاب. النبش في قبور الأقباط فيه الكثير من مضيعة للوقت إذا قام به الأقباط وفقط، ولكن فيه فوائد كثيرة لمستقبل هذا البلد إذا شارك في هذا النبش مصريون وفقط، لأن هذا القبور لا تحتوى فقط على أدلة تثبت التمييز والاضطهاد الديني ولكن تثبت أيضاً حقيقة تاريخ طويل من التعايش والتضامن بين المصريين كما على تاريخ طويل من نضال المصريين مسلمين ومسيحيين المشترك ضد السلطة التي كان يعمل بها ولها مسلمين ومسيحيين.لا تتركوهم وحدهم وهم ينبشون قبورهم لأن بعض هذه القبور تحتوي على وثائق ضرائب جائرة تم جمعها ليس لبناء الجسور وشق الترع ولكن لبناء القصور وتشييد الاهرامات. إنه مكر التاريخ.
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=144379