السؤال الثالث: هل تغيرت أوضاع الأقباط أثناء وجود الحملة الفرنسية؟
بالرغم من العبارة السابق ذكرها في رسالة نابليون للمعلم الجوهري والتي يقول له فيها أنه "يمكنه إخبار الأقباط" بالسماح لهم بممارسة بعض المظاهر الآدمية؛ لكن الحقيقة، في الواقع، هي التالي:
ـ لم يقل نابليون في رسالته أن للأقباط الحق "فورا" في ممارسة طقوس العبادة بصورة علنية، بل فقط أنه سيعطيهم هذا الحق "عندما تسمح الظروف، وهو ما أتوقع ألا يكون بعيدا". فإحداث مثل هذه التغييرات، حتى وإن كانت بديهية، في أمة لازالت تعيش في غياهيب الظلمات ، يشبه الدخول إلى جحر أفاعي، بينما الهدف الأهم بالنسبة له هو نجاح الحملة واستقرار الحكم واستتباب الأمن.
ـ في نفس الرسالة نجد نابليون يعيب على الأقباط ضعف مساندتهم للحملة الفرنسية مقارنة بغيرهم من المصريين: [(..) لا يمكنني أن أخفي عليكم أنني، في الواقع، أشكو من قلة الحماسة التي أظهرها الكثيرون (من الأقباط). فبينما يأتي إلي كل يوم كبار الشيوخ ليكشفوا لي كنوز المماليك، كيف إذن أن أولئك الذين كانوا الوكلاء الرئيسيين القائمين على (تلك الكنوز) لا يفعلون شيئا لمساعدتي على اكتشافها (..)].
ـ لم نجد رسالة واحدة يأمر فيها نابليون بصفة رسمية من قواده أو من حكام الأقاليم بأي تغيير يتعلق بالأقباط، وبالتالي فإن ما قاله في رسالته هذه هو فقط من قبيل إبداء النيات الطيبة.
ـ استمر نابليون في استخدام الأقباط كمباشري ضرائب كما كان الحال أيام المماليك. وبعد تعيين المعلم الجوهري مباشرا عاما على مصر (وهو الذي كان يقوم بدور شبيه مع كبار المماليك قبل الحملة) قام بتعيين ثلاثة على إقاليم الجيزة ومنوف والمنصورة (رسالة 2698 بتاريخ 31 يوليو 1798 إلى الجوهري)، وكذلك خمسة على الاسكندرية ورشيد ودمياط وأطفيح والشرقية ( رسالة 2725 بتاريخ 2 أغسطس 1798ـ إلى الجنرال بيرثييه رئيس أركان الحرب) وعين المعلم يعقوب مباشرا على بني سويف والفيوم.
ـ استمر نابليون في فرض ضرائب خاصة وإضافية على "الأقباط" كفئة، كما هو واضح مثلا من الرسالة 2753 ـ بتاريخ 3 أغسطس 1798 الموجهة إلى المعلم الجوهري حيث يطلب منه [(..) أن يكلف كلا من المعلم ملطي وأنفورني وحنين وفادوس بتحصيل المبلغ الذي طلبتُه من الأمة القبطية. وألاحظ مع الأسف أنه مازال يتبقى 50 ألف تالاري متأخرات؛ وأريد أن يتم إيداعها في ظرف خمسة أيام في خزينة الجيش]. وإن كان قد أضاف عبارة: [يمكنكم طمأنة الأقباط بأنني سأضعهم في مكانة لائقة عندما تسمح الظروف]، إلا أنه من الواضح أنها ليست أكثر من محاولة استمالة أو مجاملة. وفي الرسالة رقم 3294 بتاريخ 21 سبتمبر ـ إلى بوسييلج، مدير الشئون الإدارية والمالية للجيش (ومصر)، يُذَكره بمتأخرات من تجار الحرير الدمشقي قدرها 8,300 تالاري، وتجار القهوة (32,000) والأقباط (1,000) وزوجات المماليك الهاربين (24,000). ويطلب الإسراع في الدفع. (التولاري عملة فضية من جنوا، كان استعمالها منتشرا آنذاك، وكانت تساوي 5,28 فرنك فرنسي).
ـ لم يقم نابليون حتى بإلغاء "الجزية" المفروضة على الأقباط، إذ نجد في ملخص ميزانية الدولة الذي قامت به الإدارة الفرنسية للبلاد كما أورده محررو المجلد، بندا خاصا "للضرائب على غير المسلمين" إلى جانب ضرائب الأرض والتجارة والصناعة والجمارك.
ـ لم يتورع نابليون عن وصف الأقباط بما لا يليق في إحدى الرسائل. فقد اشتكى حاكم الشرقية الجنرال رينييه من تصرفات مباشر الضرائب القبطي في الإقليم، المدعو فلتاؤوس، فرد عليه نابليون (رسالة 3130 ـ 10 سبتمبر 1798) قائلا: [أبلغتُ المباشرَ العام على الضرائب (الجوهري) بأنك لم تكن راضيا على الإطلاق عن (المباشرين) الأقباط. إنهم أناس لئام في البلاد، ولكن ينبغي مراعاتهم لأنهم الوحيدون الذين في يدهم مجمل الإدارة للبلاد. لقد حصُلتُ منهم على سجلات هائلة حول قيمة الضرائب المفروضة].
ـ بالطبع كل ما ذكرناه لا يغير من حقيقة الزلزال الهائل الذي أحدثته الحملة الفرنسية في مصر والتي بدأت آثارها من كافة النواحي تتضح خصوصا بعد انتهائها وبدء حكم محمد على.
السؤال الرابع: ماذا عن الرسائل بين يعقوب والجوهري؟
بمراجعة الوثائق حتى نهاية 1799 لم نجد أي معلومات مباشرة بشأن رسائل متبادلة بين المعلم يعقوب والمعلم جرجس الجوهري. وإن كان يمكن عن طريق التخمين الزعم بأن شخصا ما، كالمعلم يعقوب أو غيره، قد بعث إلى نابليون عبر المعلم الجوهري، باعتباره أعلى الأقباط وظيفيا، رسالة بشأن أحوال الأقباط في البلاد؛ وهي التي قام بالرد عليها في الرسالة التي ناقشناها أعلاه، وهي الوحيدة التي رأينا فيها كلاما يتعلق بأوضاع الأقباط بصفة عامة.
بل إن المعلم يعقوب شخصيا لم يُذكر إلا في رسالة واحدة من نابليون، وبصورة غير مباشرة (وثيقة 2875 بتاريخ 20 أغسطس 1798 إلى بوسييلج) يقول فيها: [أرجو تعيين مباشر ضرائب قبطي (1) وموظف فرنسي في كل من أقاليم بني سويف والفيوم ليذهبا هناك مع الجنرال ديزيه الذي سيغادر غدا.
وتذكر الحاشية (1) من لجنة التحرير أن المُعني به هو: "يعقوب؛ وهو الذي سيبدأ بهذا سجلا لامعا في مساعدة الفرنسيين"].
وواضح من هذا أن يعقوب كان عندئذ مجرد مباشر ضرائب مثل غيره. ولا ننوي هنا مناقشة ما فعله الرجل، فهذا مبحث آخر يحتاج لمصادر ومراجع أخرى. وهناك من النظريات ما تذهب إلى أنه كان صاحب مشروع وطني تحصل بمقتضاه مصر، بمساعدة من القوى العظمى في وقته، على استقلالها من الدولة العثمانية وتتخلص من سطوة المماليك. وهذا بالضبط ما حاول محمد على القيام به بعد ذلك بسنوات قليلة.
وعلى أي حال فإن دور يعقوب الحقيقي بدأ بعد رحيل نابليون، أثناء فترة قيادة كليبير؛ كما يقول عنه فهرس الشخصيات في نهاية المجلد: [يعقوب الصعيدي (1803ـ1747): قبطي، مباشر ضرائب لدى زعماء المماليك قبل وصول الفرنسيين، يضع نفسه في خدمتهم ويصبح منظما لمالية حملة ديزييه في مصر العليا (الصعيد)، لاعبا، من ناحية أخرى، دورا كبيرا في تشكيل قسم معلومات للفرقة. وعندما أصبح كليبر قائدا عاما، عينه قائدا للكتيبة القبطية، بعد التمرد الثاني بالقاهرة]. وبالتالي فإن رسائل نابليون أثناء وجوده في مصر لا يمكن أن تعكس مثل هذا الدور.
__________________
لم اكتم عدلك في وسط قلبي تكلمت بامانتك وخلاصك لم اخف رحمتك وحقك عن الجماعة العظيمة اما انت يا رب فلا تمنع رأفتك عني تنصرني رحمتك وحقك دائما
|