فصل من كتاب ( مسؤولية فشل الدولة الاسلامية) الذي منع نشره
جمال البنا
بين التقوقع والتميع
أثارت زوبعة الحجاب في فرنسا قضية "الهوية" التي اعتبر الكثيرون أن الحجاب هو رمز لها، أو جزءاً لا يتجزأ منها.
وقضية الهوية من أعقد المشكلات الحضارية التي يتعرض لها المجتمع الإسلامي المعاصر، نتيجة لأن ثقافته، وأصوله، ومثالياته.. وآماله كلها ترتبط بالماضي المجيد، بينما يثير الحاضر في وجهه مشكلات معقدة كما يعرض رؤى ساحرة لها جاذبيتها، ولكنها لا تتفق – إن لم تكن تتعارض- مع مثله، ومن هنا يأتي التمزق والحيرة ما بين الشرق وماضيه.. وما بين الغرب وحاضره..
على أن هذه المشكلة إذا كانت تمثل تحدياً من أكبر التحديات بالنسبة للمجتمعات الإسلامية، فإنها بالنسبة للأقليات الإسلامية في أوروبا وأمريكا تمثل أعظم التحديات قاطبة، تحدياً جعل المواقف إزاءه تتقطب ما بين التقوقع.. والتميّع نتيجة لعدم التوصل إلى الحل الذي يمكن لهذه الأقليات أن تعيش في وطنها الجديد آمنة، مطمئنة، محتفظة بمثاليتها وفي الوقت نفسه تتعايش مع المجتمع الذي تعمل معه، ولا يمكن بالطيع أن تنعزل عنه.
بعض الأفراد ما أن يواجه المجتمع الأوروبي/ الأمريكي حتى ينبهر فتتزلزل خلال أسابيع أو شهور العادات والتقاليد والقيم والمبادئ القديمة زلزالا شديدا. ثم تتهاوى أمام صور الإغراء ومظاهر التحلل ووسائل الاستمتاع ويحس أنه كان فى "جرّه وطلع لبرّه" كما يقولون في ريف مصر.. ويتفاوت ما ينتابه من تطور ما بين التميّع الذي يصيب مقوماته، والذوبان الذي يأتي عليها ويفقده شخصيته الخاصة.
ولكن يحدث في حالات أخرى أن تثير مظاهر الحياة الأوروبية/ الأمريكية قوى المقاومة في النفس خاصة لدى الذين نشأوا نشأة إسلامية عميقة. فهؤلاء لا يستشعرون إعجابا وانبهارا، بل يحسون عزوفا وكراهية تؤدى بهم إلى نوع من التعصب والتقوقع والانعزال عن هذا المجتمع الكافر الضال المنحل!.
وفى نظرنا أن المسلكين خاطئان.. فالمسلك الأول يقضى على الشخصية الخاصة للمغترب طالباً أو عاملاً دون أن يكسب – ضرورة – الشخصية الأوروبية الأمريكية – ويغلب دائماً أن يستشعر نوعاً من النقص إزاء المجتمع الجديد الذي لم يبح له بكل أسراره ولم يفتح له كل أبوابه واعتبره رغم استعداده للذوبان دخيلاً. كما أن الرفض والتقوقع لن يمكن صاحبه من أن يفيد مما يقدمه المجتمع من مزايا وفرص وسيعسر عليه أن يحقق تماماً ما جاء من أجله دراسة أو تجارة أو مهنة.
وقد نجد مثالين واقعيين للتطرف في الموقفين في عمال الشمال الأفريقي "من مغاربة وتوانسة وجزائريين" الذين ذاب كثير منهم في المجتمع الفرنسي وإن ضاق بهم المجتمع الفرنسي، وفى العمال الأتراك الذين يقيمون في أحياء خاصة من المدن الألمانية التي يعملون فيها ولا تجمعهم بالمجتمع الألماني إلا ساعات العمل ولا يلمون من الألمانية إلا بما يفي لتبادل الأحاديث الضرورية.
ولو تقصينا مواقف الأغلبية العظمى للطلبة والعاملين المغتربين لوجدنا أنها تتذبذب ما بين التقوقع والتميع بنسب متفاوتة دون أن تتوصل إلى الموقف السليم لأن هذا الموقف السليم، وهو صعب وشائك وحساس، لا يمكن التوصل إليه بالتلقائية أو العشوائية أو الهوى أو حتى الاجتهاد الفردي. فهو مرتبط بعوامل موضوعية قدر ما هو مرتبط بنزعات ذاتية، وهناك عدد من المبادئ والأصول تحكمه وتحدده وتقيمه على أساس "أيدلوجي" أو على الأقل "مبدئي" بعيدا عن الهوى والعواطف، وأهم هذه المبادئ والأصول هي ما يتعلق بالإسلام الذي يهمله البعض فيذوب، ويتعصب له أو يسىء فهمه البعض الآخر فيتقوقع، لأن الإسلام هو عصمة المسلمين جميعا ومن هنا فإن من المهم إبراز المبادئ والأصول الإسلامية التي تؤثر على الموقف.
أولاً: أن المسلم "النمطي" بريء من عقدة النقص أو نزعة الاستعلاء..
بريء من عقدة النقص لأنه يعلم حق العلم أن دينه هو منتهى الأديان وأن رسوله هو خاتم الرسل وأن أي مقارنة ما بين كتاب الإسلام "القرآن" ورسول الإسلام "محمد" من ناحية وبقية كتب الأديان الأخرى ورسلها لابد وإن تسفر عن الأفضلية المطلقة لكتاب الإسلام ولرسول الإسلام، وهو يعلم أيضا أن الإسلام اكتسح العالم القديم اكتساحا وحرره من إسار القيصرية الرومانية والكسروية الفارسية ونُظمهما الطبقية الجائرة واحل محلها "الكتاب والميزان"، أي العلم والعدل. وان الإسلام أنجب من الخلفاء والقادة ورجال الدولة ما عجز عن تقديمه الرومان القدامى أو الأوربيون المحدثون، وان واقع "دولة المدينة" المنورة يفضل خيال "جمهورية أفلاطون"، وان المجتمع الإسلامي الأول أوجد عظماء العلماء في الرياضة والطبيعة والهندسة ومختلف العلوم إلى أخر أمجاد الإسلام التي لا يتسع لها المجال. وهو ثانيا برئ من نزعة الاستعلاء والزهو لأنه يعلم أن هذا كله من الله تعالى، وان الفضل فيه إلى الله وحده زانه تعالى عندما آثر المسلمين بهذه النعم فانه ربطها بقيام المسلمين بواجبهم فإذا اخلوا به حرموها حق العلم. إن التنشئة بالأنساب أو الأجناس أمر يستبعده الإسلام تماما، وان الشعوب جميعاً سواء دون تفرقة، والله تعالى لا ينظر إلى ألوان الناس أو أجسامهم ولكن إلى التقوى منهم. ولهذا فانه لا يستشعر استعلاء أو عدوانية أو زهوا أمام الآخرين.
|