توى رضاع الكبير: صدرت فتوى رضاع الكبير من مختص في الدّراسات الإسلامية صاحب شهائد عليّا بجواز إرضاع المرأة لزميلها في الشغل، ثم تراجع الرّجل عن فتواه واعتذر عنها، والأصل أن لا يخطئ المرء في مثل هذه القضايا، ثم يعتذر، وأنا لا يهمّني الشّخص بقدر ما تهمّني الحادثة، وإنّي أتعجب لمن يستغرب من كثرة الكتابة في هذا الموضوع، ويدافع عن السّيد المفتي المعتذر ويعتبر قوله من حرّية الرّأي ، واعتبر أنّه من حقّ المثقّفين أن يضجّوا، وأن يجنّدوا أقلامهم للرّدّ على مثل هذه الفتاوى المخزية الّتي تسيء لدين الإسلام ولحضارته وللمسلمين بصفة عامّة، ومن هذا المنطلق سأقف عند الاعتذار في قول المفتي "أنا لست من أهل البدع، وإنّما اتّبعت السّلف الّذين قالوا برضاع الكثير".
عن أي سلف يتحدّث الرّجل، وإن وجد منهم من قبل هذه الفتوى فلا اعتبار لرأيه أمام ما جاء به القرآن الكريم في هذه الآية:﴿والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتمّ الرّضاعة﴾(البقرة 233)."وانتزع مالك ومن تابعه وجماعة من العلماء من هذه الآية أنّ الرّضاعة المحرّمة الجارية مجرى النّسب إنّما هي ما كان من الحولين، لأنّه بانقضاء الحولين تمّت الرّضاعة ولا رضاعة بعد الحولين معتبرة" هذا قوله في موطّئه وهي رواية محمّد بن عبد الحكم عنه، وهو قول عمرو ابن دينار وابن عبّاس، وروي عن ابن مسعود، وبه قال الزّهري وقتادة والشّعبي وسفيان الثّوري، والأوزاعي والشّافعي وأحمد وإسحاق وأبو يوسف ومحمّد وأبو ثور وغيرهم كثير...
وعندهم جميعا وعند تابعيهم" ما كان بعد الحولين من رضاع بشهر أو شهرين أو ثلاثة فهو من الحولين، وما كان من بعد ذلك فهو عبث وهذا يدلّ على ألاّ حكم لما ارتضع المولود بعد الحولين" لحديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم "لا رضاع إلاّ ما كان في الحولين" وهذا الخبر والآية والمعنى ينفي رضاعة الكبير وأنّه لا يحرمه له(الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، 3/104،بيروت 1408/1988م).
ويؤيّد هذا الرّأي الخبر عن عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه جاء رجل فقال: إنّي كانت لي وليدة وكنت أطؤها فعمدت امرأتي فأرضعتها فدخلت عليها فقالت لي دونك، فقد واللّه أرضعهتها.
فقال عمر: أوجعها وائت جاريتك فإنّما الرّضاعة رضاعة الصّغير" وبعقده حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم " لا رضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الحولين" وهو قضاء أغلب السّلف.
فمن أين جاء الحكم بجواز رضاع الكبير الّذي أفتى به شيخ من الأزهر ثم تراجع عن فتواه؟
لا ينكر أحد أنّ هناك أخبارا ذكرت رضاع الكبير وأوّلها: ما روى عن عائشة "كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات ثم نسحن بخمس معلومات، فتوفّي الرّسول وهي ممّا يقرأ من القرآن"(أبو داود، السّنن، كتاب النّكاح، باب 49). وفي سنن ابن ماجة عن عائشة قالت:"نزلت آية الرّجم ورضاعة الكبير عشرا ولقد كان في صحيفة تحت سريري فلمّا مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وتشاغلنا بموته أتى داجن فأكله"(كتاب النّكاح باب 36).
لا يمكن لمن له عقل واع ورؤية نقدية أن يقبل مثل هذه الأخبار، ما هذا الخرف، قرآن ينزل، وفي صحيفة وملقى تحت السّرير فيأكله داجن، ومهما علت درجة صحّة هذا الخبر وإن رواه أصحاب الكتب السّنة فلسنا ملزمين بقبوله، والكثير من المرويات في هذه الكتب ليست صحيحة. كما أن مثل هذه الأخبار لا تصلح للدّلالة على حكم شرعي، لأنّ دلالتها تقف على صحّة ثبوت صيغتها، وصيغتها يصحّ نفيها باتّفاق، فكيف يمكن الاستدلال بها والخير في ترك مثل هذه الأخبار وتنقية التّراث منها.
ثانيها: ورد في صحيح مسلم عن عائشة رضي اللّه عنها أنّ سالما مولى أبي حذيفة كان يدخل على أبي حذيفة وأهله في بيته، فأتت سهيلة بنت سهل النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقالت: إنّ سالما قد بلغ ما بلغ الرّجال، وعقل ما عقلوا، وإنّه يدخل علينا وإنّي أظنّ في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئا فقال لها النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "ارضعيه تحرمي عليه،ويذهب الّذي في نفس أبي حذيفة، فرجعت فقالت: إنّي قد أرضعته فذهب الّذي في نفس أبي حذيفة"(كتاب الرّضاع، باب : رضاع الكبير).
وكان السّلف أكثر حيطة من مفتي الألفية الثالثة في تعليل هذا الخبر، وفي رفضه أو قبوله.
__________________
samozin
|