المخبرون والحداثة
نأتي لحقل الأمن السياسي، أي جهاز مباحث أمن الدولة وفروعه، حيث تتضاءل أهمية المخبرين تدريجيًا منذ أعوام فلا يكلفهم الضباط بالبحث عن معلومات تخص قضايا ذات أهمية خاصة أو عن شخصيات مهمة، بل يقوم بها الضباط بأنفسهم، ولا يتجاوز دور المخبر هنا أن يكون مجرد عنصر مساعد في عمليات جمع المعلومات، وحتى هذه أصبحت تقتصر على طراز جديد من أمناء الشرطة، وليسوا من ضباط الصف "المخبرون التقليديون"، كما هي الحال في إدارات البحث الجنائي، فأمين الشرطة حاصل على مؤهل فوق المتوسط، كما أنه عادة شاب في مقتبل العمر، يحتمل العمل الشاق في أجواء المواجهات التي تتسم أحيانًا بالشراسة، وتتطلب لياقة بدينة وسمات شخصية تكفل عدم كشف أمره، بعيدًا عن ذلك النموذج الفولكلوري للمخبر الذي كاد أن يندثر الآن، ولم تبق منه سوى أعداد قليلة بدأت تنحسر أدوارها الميدانية
وخلافًا لهذا الدور الهامشي لوضع "المخبرين" في أجهزة الأمن السياسي، فإنهم في الأمن الجنائي ممثلاً بأقسام ومراكز الشرطة وإدارات البحث الجنائي تكون مهامهم أوسع، ويقول ضباط عملوا أعوامًا في حقل البحث الجنائي إنهم طالما حاولوا الحفاظ على تلك "شعرة معاوية" مع المخبرين، حتى يهيئون لهم فرصة الحصول على المعلومات بشكل مستمر عن عالم الجريمة، دون أن يمنحوهم صلاحيات قد تغري بالفساد .
أما إذا كانت هذه المعلومات مهمة على نحو ما، فيتلقفها الضباط ثم يعملون على تدقيقها وكشف ملابساتها، مع الحرص على استبعاد المخبرين عن التعامل معها تماما، فأكثر المراحل خطورة في عمل المخبرين هي تلك التي يجري توريطهم خلالها في عملية تجنيد لصالح عصابة إجرامية، ليتحول من مخبر يعمل لصالح جهاز الأمن، إلى "جاسوس" على الجهاز.
وهنا يلزم التنويه إلى أنه في أوساط الجريمة ومكافحتها، يشكل مخبر المباحث أخطر حلقة في عملية البحث الجنائي، إذ يمتد عمله ليلاً ونهاراً، وهو مكلف بتتبع المعلومات وتصيدها في كل مكان ومن أي شخص سواء كان لصاً أو قاطع طريق أو تاجر مخدرات، ويسئل المخبرون والضباط المشرفون عليهم عن حجم انتشار الجريمة في مناطقهم، ويجري تقييم أدائهم وفقاً لعدة معايير، ومن خلال عمليات تقويم دورية، يضلع بها مفتشون كبار برتبة لواء، من قطاعي الأمن العام والتفتيش والرقابة بوزارة الداخلية.
هموم وانحرافات
وكما أسلفنا فإن المخبرين يشكلون حلقة هامة في عملية البحث، ليس فقط لأنهم أول من يعلم بوقوع الجرائم بحكم التحامهم اليومي بالشارع، لكن أيضًا لأنهم أحيانًا قد يتحولون لمصدر خطر حقيقي، في بعض حالات الانحراف، فالمخبر "حبل سري" بين عالم الجريمة وجهاز الأمن، وإذا استطاعت العصابات تجنيد هذه الحلقة لصالحها ستبوء كل خطط المباحث بالفشل، وربما تسبب في إفلات بعض الجناة من العقاب، أو التسبب في إيذاء زملائه من رجال الأمن.
ومراراً فشلت حملات أمنية لضبط تاجر مخدرات أو مهرب أسلحة لأن مخبرًا أرسل من سبقه إلى التاجر وأبلغه بالأمر ففسدت كافة الترتيبات، فهذا المخبر تحول إلى عميل زرعته العصابات داخل جهاز الأمن، على الرغم من أنه يدرك جيداً أنه قد يحاكم عسكريًا إذا اكتشف أمره، ويقول مخبر سري إنه ليس هناك ما يمنع المخبر من الخيانة سوى ضميره، فهو يستطيع أن يفسد أي خطة، مهما كانت الرقابة عليه بالغة الصرامة، ذلك لأنه هناك دائما ثغرة ما يعرفها المخبر بحكم خبرته الطويلة.
ويروي محام كبير قصة شهيرة في أوساط المحامين المتخصصين في الدفاع عن المتهمين في قضايا المخدرات، بطلها محام شرعي من ذلك الطراز القديم الذي كان يرتدي الزي الأزهري، كان الرجل يحسم كل قضاياه بسؤال وحيد يوجهه للضابط الذي حرر محضر جمع الاستدلالات، والذي على أساسه قامت القضية، هذا السؤال هو : هل فتشت فريق المخبرين العاملين معك قبل أن تلقي القبض على المتهم والمضبوطات (المخدرات)؟
الإجابة هنا لا تخرج عن احتمالين لا ثالث لهما، إما بالإيجاب أي فتشت بالفعل المخبرين، أو بالنفي أي أنه لم يفتشهم، وبعد أن يجيب الضابط، تنتهي مهمته لتبدأ مهمة المحامي المخضرم الذي يصول ويجول بمرافعة رصينة، ثم يتوجه إلى هيئة المحكمة قائلاً في حالة الإجابة بالنفي، "إن المخبرين من الطوائف التي تشتهر بسمعة ليست فوق مستوى الشبهات، وكثيراً ما سمعنا في أوساطنا الاجتماعية عن مخبرين دفعوا الضباط إلى القبض على أبرياء في قضايا مصطنعة أو ملفقة، وأحياناً يكون المخبر قد دسّ المخدرات أو الممنوعات على الشخص البرئ، وأن دوافع هذا الفعل مفهومة، ذلك لأن الضباط متغيرون، والمخبرون من ثوابت المكان، يعمرون به عقوداً، وبالتالي تنشأ لهم مصالح وعداوات في الحيّ، ومن ثم يتورطون في تصفية الحسابات إما لصالحهم، أو لصالح غيرهم بمقابل ما، قد يكون مادياً أو معنوياً.
وبالتالي يثور الشك في نفس القاضي، وإعمالاً بالمبدأ القانوني الشهير القائل إن "الشك يُفسر لصالح المتهم"، لا يجد القاضي مناصاً من تبرئة المتهم الذي ساورته الشكوك حول صحة ما هو منسوب إليه من ضبطه متلبساً بحيازة مخدرات أو ممنوعات.
أما الاحتمال الثاني فهو أن يجيب الضابط بالإيجاب، قائلاً إنه بالفعل فتش المخبرين، ولم يجد بحوزتهم شيئاً قبل الضبط، فإن المحامي حينئذ يثير أمام المحكمة حجة منطقية، قائلاً إنه إذا كان الضابط شخصياً يشك في رجاله فالأحرى بهيئة المحكمة أن تشك بهم، وأن عدم عثور الضابط على شئ بحوزتهم لا يمثل "صك براءة"، فالمخبر المتمرس على العمل الأمني ربما قبل أن يولد الضابط، وأنه لا يشكك في نوايا الضابط فهو ابن بيئة اجتماعية جيدة ، وتلقى تعليما عالياً، لكنه قد يشك في خبرته الكافية لتتبع ألاعيب وحيل المخبرين، وهؤلاء بوسعهم أن يدفعوا ببعض الأشقياء والخطرين من معارفهم لوضع المخدرات لهذا الشخص أو ذاك، وهكذا تجد الشكوك سبيلها إلى نفس القاضي الذي يفسر الشك لصالح المتهم، فلا يجد مناصاً من أن يقضي بالبراءة.
وعلى الرغم من السمعة التاريخية المرتبطة بمهنة "المخبرين"، غير أن اللافت هو أن الاقبال على هذه المهنة مازال كبيراً، وهنا يقول لواء شرطة متقاعد: "زمان كانت دوافع الالتحاق بالداخلية تنبع من إشباع طموح الشخص في العمل بالشرطة، كانت هناك صورة نمطية للعمل المفعم بالإثارة والسلطة والنفوذ، كما يمكنه أيضاً أن يكون مفيداً لذويه من البسطاء، لكن الآن يفكر كثيرون في الأمر باعتبار أنه يؤمن دخلاً شهريًا ثابتًا، ويحصل على مزايا العمل الحكومي الآمن في حالة المرض أو العجز أو الإحالة على التقاعد"
|