لأنهم - فقط - غير مسلمين!

[abomeret]

لأنهم - فقط - غير مسلمين!

بقلم محمود الكردوسى ١٤/٧/٢٠٠٨
هكذا علمونا!

يتغندر الأستاذ «محمد بحلق» بين «تُخَت» الفصل مزهواً، كإقطاعي يتريض حول وسيته، بينما عصاه الملتوية تختبئ وراء ظهره:

* زمان يا ولاد.. كان بلال بن رباح يؤذن في المنطال!

لم يسيطر «مهدي» علي نفسه، أضحكه الأداء في كلمة «منطال» - بضم الميم -رغم أنها مألوفة «شفشق فخار لتدميس الفول والعدس في بعض قري صعيد مصر».

استمر الأستاذ في الشرح. مرت دقائق، نسي خلالها مهدي أنه أخطأ.. ضبط الأستاذ عصاه علي رأس الفريسة.. أعطاه الأمان.. اقترب منه دون أن يشعر، وفجأة.. نزلت العصا علي رأس الولد، فسمع التلاميذ بكاءً مكتوماً، وبعد لحظات وقف الأستاذ أمام السبورة، وقال محذراً، متوعداً:

* إياكم أن تضحكوا في حصتي يا حثالة بستان الاشتراكية.

طربوش أحمر قصير علي رأس حليق، وكاكولا تحاصر الكرش، فتجعل منه شيئاً ذا قيمة، وعباءة تهفهف علي الجانبين، وجبهة أوسع من «داير الناحية»، تتوسطها قرحة متوردة من أثر السجود، ثم.. طريقة منغمة في تحفيظ القرآن:

* بااااسم اللاااااه الرحمااان الرااحيم..

يمط الأستاذ «محمد بحلق» آخر حرف من الكلمة حتي لو كان ساكناً، وأحياناً يمطها من المنتصف والذيل، إمعاناً في التفخيم أو لتسهيل حفظها، ويمكن لشخص في الخلاء يبعد عن المدرسة ثلاثة كيلو مترات أن يسمع بالقوة نفسها، وبالإيقاع المنغم نفسه.. أصوات التلاميذ وهم يرددون وراءه قصار السور «الفاتحة والكوثر والإخلاص والمعوذتين.. وغيرها».

لم يكن الأستاذ يتسامح مع تلميذ يخطئ في قراءة كلمة أو تشكيلها، فما بالك إذا كان الخطأ «كفراً» بدلاً من «كفواً» في سورة «الإخلاص».. تنزل عصاه الملتوية علي الكف وقد تيبست من البرد فتشعلها ناراً، ولأنها ملتوية فإنها غالباً ما تلهف المعصم في طريقها، وغالباً ما كان المشهد يتكرر بصورة شبه يومية، لأن كلمة «كفر».

كانت من الألفة لدي تلاميذ القرية بحيث تبدو كلمة «كفواً» أشبه بفخ لا يفلت منه عادة سوي «مهدي»، فيكافئه الأستاذ بإبقائه في غرفة المدرسين إلي ما بعد انتهاء اليوم الدراسي.. يعطيه القلم الغاب، ويفتح له دواة حبره الخاصة، ويتركه يشخبط ريثما ينتهي من تصحيح الكراريس، وما إن يعود إلي البيت حتي يسحب طبلية الأكل ويفتح صفحة جديدة في كراسة الرسم ويفرد مزقة من صحيفة قديمة كان قد سرقها من دكان أبيه وخبأها في أحد كتبه، ثم يفتح دواة الحبر ويبري كعب البوص ويبدأ في محاكاة العنوان: «يسقط الاستعمار».

كان أحمر العنوان، مع تخانة الحروف، وسلاسة اتصالها ببعضها، يغمران مهدي بفيضٍ من المتعة، لكنه لم يفهم لماذا كُتِبَت السين في «يسقط» بسنونها الثلاث، بينما مُدَت سين «الاستعمار» بلا سنون؟ فتجاسر وذهب إلي غرفة الناظر ليسأل الأستاذ، فربت علي كتفه ورد مبتسماً:

* هذا خط الرقعة.. ويسمونه السهل الممتنع.

كان مهدي في السنة الخامسة الابتدائية عندما بدأ الأستاذ بحلق يهتم بموهبته في الخط العربي ويعامله بوصفه ابناً روحياً. وعندما انتقل إلي سنة القبول قدم الأستاذ التماساً إلي ناظر المدرسة، الأستاذ «حمد الله كده وبتاع»، يطلب فيه ضمه إلي فصل سادسة أول، فصل المتفوقين، فوافق الناظر بلا تردد. لاحظ مهدي في البداية أن سادسة أول يضم ثلاثة عشر نصرانياً من أربعة وثلاثين تلميذاً، بينما لم يكن في سادسة تاني نصراني واحد، وهو ما يعني أن كل النصاري متفوقون، وكانت ملاحظته الثانية أن الثلاثة عشر نصرانياً يتركون الفصل في حصة الدين، فلما سأل الأستاذ عن السبب عنفه قائلاً:

* ألا تعرف لماذا يا عرة المد الثوري؟.. لأنهم غير مسلمين!

ثم هدأ قليلاً وقال بنبرة تعليمية حاسمة:

* حُطها حلقة في أذنك.. لا ينبغي لغير المسلم أن يسمع قرآننا أو يشاركنا مناقشة أمور ديننا!

وزيادة في الحرص خصه الأستاذ بلائحة تعليمات مشددة:

* لا تطلب عوناً من نصراني حتي إذا اضطررت لترك ورقة الإجابة بيضاء.. لا تلعب مع نصراني لأنه سيغافلك ويؤذيك. لا تأكل من طعام نصراني، لأنه غير نظيف ومطبوخ بالزيت.

ومع أن مهدي كان يتطلع من نافذة الفصل إلي زملائه النصاري وهم يمرحون في فناء المدرسة، فيشعر بالغيرة، ويدعو الله في قرارة نفسه أن يسخطه نصرانياً ولو في حصة الدين فقط.. فقد أصبح نشيده الرسمي: «النصاري.. دبحوا حمارة.. فطت دنشة (أي قطعة).. قالوا خسارة».

http://www.almasry-alyoum.com/articl...ticleID=113194